فضيحة المثقف العربي


* خليل قنديل

ظلّ المثقف العربي منذ مطلع عصر التنوير وعبر أكثر من قرن يقايض مبررات وجوده الثقافي الفاعل في تلاوين التحولات الاجتماعية والاقتصادية، بطريقة لا تخلو من الانتهازية والتبعية المطلقة لأنواع السلطات السياسية المقترحة كافة، فهو على الأغلب، إما أن يقوم بدور المطبل للقيادات السياسية، وإما أن يدخل في الحرد الثقافي المشاغب كي يحصل على مكانته المنتقاة. وفي الحالتين ظلّ المثقف العربي هو الرابح وظلت الجماهير التي سيدته تعيش خساراتها القومية في كل عقد وفي كل مفصل.

فانتهازية المثقف العربي هي التي صنعت رموز الدولة العربية الحديثة، والانتهازية ذاتها هي التي توجت بعض الديكتاتوريات العربية المعاصرة ومنحتها كل هذه التراخيص الدموية، فرئيس الدولة الذي قاد دبابته واقتحم مبنى الإذاعة كي يلقي بيانه الثوري الأول، كان يعتمد في صياغة هذا البيان على المثقف صاحب الدراية بكل الكليشيهات الثورية التي تكون قادرة على دغدغة الدهماء. والرئيس الذي جلس في مقعده الرئاسي كل هذه العقود كان يستند في تبريرات وجوده القومي والثائر إلى تخريجات المثقف العربي.
واذا أردنا أن نكون أكثر دقة، فإننا نقول إن سر كل هذا الخراب وكل هذا التجهيل يعود اساساً الى المثقف الذي ودع وعيه مبكراً وارتهن هو ورأسه لتجليات الديكتاتور المُلهم، وقد فعل كل هذا وهو يعي تماماً أنه خان أمانته الثقافية.
وفي الذاكرة الثقافية العربية نستطيع أن نقرأ عن بعض الرموز والأسماء التي رفضت، في وقت مبكر أن تنصاع لإغراءات الرئيس وإغراءات كل الهيلمان السياسي السائد، وكان عليها مقابل هذا الرفض أن تدفع ثمن رفضها وتمردها، ويكون ثمن هذا التمرد رأس المثقف ذاته.
إننا حين نستذكر غسان كنفاني، كمثقف عضوي، ونلاحظ كيف تم تفجير سيارته في شوارع بيروت، أو حين نستذكر عبدالرحمن الكواكبي الذي أمسك بالديكتاتورية العربية وهي تتشكل، ونرى كيف مات مسموماً بفنجان قهوة في أحد مقاهي القاهرة، وحين نرى فناناً مثل ناجي العلي، وكيف تم اغتياله في شوارع لندن.
فإننا نعي أن معظم هؤلاء تم إعدامهم لأنهم لم يقايضوا الجلاد، ولم يقبلوا بالثمن البخس، مقابل أن يكمموا أفواههم الطليقة بالنطق.
وعودة على مضارعنا العربي المعاصر، وفي زحمة ثورات الربيع العربي، فإن المثقف العربي يغيب تماماً الى درجة الاختفاء الكامل عن المشهد الثوري، وكدليل على عدم فاعلية المثقف العربي لأكثر من قرن هو استيقاظ بعض الحركات التكفيرية والسلفية في غير عاصمة عربية كي تقود المشهد الثوري، لا بل ها هي تقود المشهد الثوري الجامح من دون أي حضور فاعل للمثقف العربي.
إن هذا الفراغ الثقافي العربي في وقت تحتاج فيه المجتمعات العربية إلى التحصين الثقافي، يجعلنا نقول إن الربيع العربي السائد كشف عن فضيحة المثقف العربي وعريه أمام كل هذه المستجدات المباغتة.
والحال فإننا نقول كان الله في عون أمة تظل تقع في العرج السياسي والمثقف، وتظل تجتر كل مخزونها التاريخي على أمل احياء عظم هذه الحضارة وهي رميم.
_________
* كاتب من الأردن

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *