الموسيقى والتغيير


* عناية جابر

التغيير في المجتمعات يصبح ضرورة لا غنى عنها عندما يصل المجتمع الى مأزق لا يعود ينتج نفسه من جديد في شروط عادية. في المجال السياسي كذلك عندما تتأزم المؤسسات ولا تعود تستطيع إدارة الصراعات على نحو سلمي. لكن في المجال الفني متى يمكن الكلام على ضرورة التغيير؟ ما هي المعايير أو المؤشرات التي يمكن اعتمادها بثقة لكي تنطرح عملية التغيير الفني.

طبعاً من السهل هنا القول أن شروط التغيير هي هي في كل الحالات، وأنه يمكن الدلالة على التأزم الفني انطلاقا من تعطل الأطر والأشكال التي يعتمد الفن عليها للبروز. غير أن الحقيقة تقتضي منا التواضع والإعتراف بأن الأمر أيسر كثيرا في مجالات الإجتماع والسياسة منه في المجال الفني.
مناسبة الكلام ظاهرة تكاثر حاملوها مؤخراً يدافعون عن أطروحة التجديد في الموسيقى العربية منطلقين من عجزها برأيهم عن التعبير عن المشاعر والأحاسيس الحديثة في العالم. الأهم في هذه الظاهرة هم المقلّدون كالعادة. فهم لا ينظرّون للمسألة بل يدلفون بالواقع إلى التجديد بدون تكليف أنفسهم عناء الإطلاع على ما سبق لتجديده متّكلين في ذلك على نظريات العارفين.
كثيراً ما نسمع منذ فترة عن وصول الموسيقى العربية إلى مأزق لم يعد يمكن معه أن ننتج فيها جديداً. صحيح انني شخصياً من محبّي الموسيقى الكلاسيكية العالمية العربية، ولكن الصحيح أيضاً أنني لست محافظة في مجال الفن ولست أبداً عدوة لكل تغيير. الانفتاح والتجريب في المجال الفني ضرورة مستحبة. غير أن البون شاسع جداً بين التجديد والتقليد.
ليس هنا المجال للكلام على الجانب التقني من الموضوع. لكن تكاثر الفنانين الذين يلجأون إلى استعمال آلات موسيقية غربية في اعمالهم متخلّين نهائياً عن آلاتنا المعروفة، كما إلى قوالب ومقامات وإيقاعات غريبة غربية تدعونا الى التساؤل إن كان هذا النوع من الفنون ما يزال ينخرط في سياق التجديد لموسيقانا أم انه اعتراف ضمني بعجزموسيقانا الكلي عن اللحاق بركب العصر الحديث وبوسائل التعبير المعاصرة. 
الانتقال الكلي من مناخ الموسيقى العربية إلى مناخات ليست جديدة تماماً في الموسيقى الغربية يقود إلى حدس مناخ فكري يقف خلف هذا النوع من التأثر والتثاقف والتلاقح. مناخ فكريّ لا يقف عند حدود تأزم الموسيقى العربية كموسيقى بل يمتد أبعد من ذلك. فأن تتخلى عن كل ما يميّز موسيقانا لكي تتبنى قوالب آخرين قد يعكس رؤية قيمية، على ما أظن، للنوعين من الموسيقى. وهو ليس فقط حكم قيمة  أعلى أدنى- بل هو تخلٍ ايضاً عما وعدَ به في البداية من ضرورة التجديد.
لن ندخل طبعاً في عملية تقويم مفصلة لكل فنّان يتبنى مثل هذه الطروحات فهم كثر ولا يمكن جمعهم في توصيفة موحدة تتيح قراءة واحدة وبسيطة. أعمالهم تتفاوت بالتأكيد من الساذج التجاري إلى العالم المعقد. ما يهمنا في هذا الإطار هو معرفة الأسسس التي انطلقوا منها لمعرفة مظاهر الأزمة. استطالة أزمة التأليف والكتابة بالموسيقى المحلية لعقود طويلة مثلاً ؟ هجر الجمهور العربي المستمع لهذا النوع ؟ تناقض الحياة السريعة مع بطء الإيقاعات العربية وطول أغانيها ؟ عدم تحمل الإذن المعاصرة للتنوع الهائل وغير المحدود للمقامات الشرقية واختصارها بمقامين وحيدين تسهيلا. 
إذا اعتمدنا هذه المعايير كسبيل للدلالة على الأزمة العميقة التي تستدعي مثل هذا التجديد فلا شيء فيها يشي فعلاً بضرورته. فالتوقف عن الكتابة والتأليف ـ على فرض توقفه- بالموسيقى العربية لم يلاحظ إلا لأسباب السوق ومتطلبات التجارة الحديثة وبعض المتعهدين. ناهيك أن التجديد فيها من خلال احترام روحها ومقاماتها لم يتوقف يوماً رغم كل ما يقال هنا وهناك. من السيد درويش مروراً بزكريا أحمد والسنباطي وصولا الى محمد عبد الوهاب وتجارب الأخوين رحباني ووديع الصافي حتى لا نذكر غيرهم.
وبالرغم من إغراق السوق ومنذ سنوات طويلة بعدد هائل من المغنّين والمغنّيات والأغاني التجارية فلقد اثبتت برامج المسابقات الفنية الأخيرة على شاشات التلفزة أن الناس ما تزال تختار الأصوات الجميلة التي تغنّي لأم كلثوم وأسمهان وليلى مراد وغيرهم من الجيل القديم. ألا يشكل هذا دليلاً على فشل الموجة الجديدة التي تفرض فرضاً بالنتيجة على أذواق الجمهور في محاولة لمصادرة ذوقه وتراثه؟
تعلق الجمهور بموسيقاه إلى هذا الحد يؤشر ربما على تعلق الجمهور بروحه ومناخه الثقافي الخاص به والذي يشكل مخزونه التراثي. وما بني على قرون لا يمكن هدمه بعقود وبهذه البساطة. ثقافة الهامبرغر لا يمكن نقل تجربتها إلى عالم الفن عند الشعوب بهذه التلقائية. الثقافة عند الشعوب ليست وليدة الأنظمة الإقتصادية ولا السياسية حتى تذهب معها وتتغير بتغيرها. الثابت طبعا لا يصمد أمام الزمن. وما صمود موسيقانا خلال دهور إلا دليل على تجددها وتطورها الدائم.
تقليد موسيقى الآخرين ونقلها والترقيع بها مع ما يرافقه من تحقير معلن أو مضمر لموسيقانا ما هو أغلب الظن أكثر من انبهار غير مبرر بموسيقى الأبيض لأنه مسيطر وقوي. أما الكلام على التلاقح بين العالمين فينفيه التلاقح باتجاه واحد ولا يطال إلا موسيقانا وحدها. وحتى يكون التجديد تجديداً لا بد من التخلي عن السعدنة الموسيقية والتبحر في التراث الموسيقي الشرقي ودراسة كافة أشكاله وقوالبه التعبيرية الخاصة به للإنطلاق منهما كشرط واجب نحو عوالم جديدة خلاقة.
لكل شعب تراثه وطريقته الخاصة في الاستمتاع الفني ولكل شعب حتما جمالياته الخاصة وموسيقاه الحلوة الجديرة بالإحترام والسمع فلماذا عولمة الموسيقى وجعلها باطوناً مسلحاً؟ 
______
* شاعرة من لبنان(القدس العربي)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *