خارج أنقاض الزمن(1)


*لطفية الدليمي

بين الانغمار في رواية جديدة و كتابة متقطعة في مذكرات الحرب والمنفى ، أخرق وحدتي – بإعادة قراءتي للشاعر العظيم ريلكه ، يمسني شعره كالبرق ويخطفني من رتابة الشأن اليومي محرضا إياي لأرى الوجود بجلاء فاضح ، قراءة شاعر مثل ريلكه تفيض على الوقت كنبع فوار من الرؤى والآفاق اللانهائية ، أقرنها بالموسيقى فيتوقف الزمن في اللحظة الفارقة التي تقسمه الى بعدين مختلفين ، تتوقف الساعات والتقاويم ، يبقى شعر ريلكه ونثره مهيمنا كجبل مضيء ليهزم الوحدة وجبروت الزمن ، الشعر و ريلكه و( لو اندرياس سالومي ) حبيبته التي تتألق بين ثنايا قصائده وتشيع فيها فيضا من الحيوية الماكرة والمناجيات الملغزة بين الإنسان والموت والسماء.
ريلكه الذي يمقت المدن الكبرى المستسلمة لضوضاء قسوتها و التي تزدهر في شوارعها ( أشجار الدموع الكبيرة ) يعلن : العزلة قدر المبدع ، شرطه الوحيد الممكن أثناء ممارسة فنه ، صوت ريلكه يبث فكرته عن الخلق والخالق في فضاء يقتضي الإنصات الملهم ، أخرس الموسيقى و أنصت في الصمت الكريستالي لقصائده التي تكتفي بذاتها لتصبح هي الموسيقى واللغة ومادة الزمن وأرى فيها الحياة والموت متداخلين متعانقين كما أرادهما الشاعر والزمن يتلاشى آونة فآونة والقصيدة تنمو فيه وتنوجد بفضل فنائه وتكتمل في مدى الزمن المتهاوي و ريلكه يشير في بعض أبياتها إلى ان الموت ( كامن كبذرة خفية في لحم الحياة الحي ) والحياة فينا ممتدة بسبب الموت ،( كل ساعة وهي تفنى تجدد شبابها ) وكل برهة زمن هي موت وولادة ونشوء وانهيار فالثواني تعتاش على أجسادنا كطفيلي يمتص رحيق طفولتنا ويمر بشجرة شبابنا ليرشف نسغها ويسلمنا الى الكهولة ولا يدع لنا غير قطرات من النسغ لتعين خطانا في منعرجات الشيخوخة وبعدها يفترسنا الزمن ويفنينا .
أعيد قراءة مقاطع من ( مراثي دوينو ) و أقرأ (دفاتر مالته لوريتس بريدج ) لأستغرق بقية الليل في كتاب ( الساعات ) وتحضر أمامي بوهج جمالها الذهبي ( لو اندرياس سالومي ) محبوبة سنواته الأولى التي تكبره بأربعة عشر عاما وهي الناقدة والكاتبة المرموقة التي تصبح المعشوقة والأم الروحية و ترفض حب ( نيتشه ) الذي عشق عبقريتها وتفضل عليه ( اندرياس) وتتزوجه وترافق ريلكه في رحلة مغامرة الى روسيا ليلتقيا تولستوي ومشاهير الأدب والفن .
يكتب ريلكه : ليس الجمال سوى بداية الرعب ، أرعبه جمال سالومي النادر وذكاءها المتغطرس الذي أودى بنيتشه الى الجنون و جعل فرويد الذي أربكه حبها يعمد إلى مراجعة آرائه الحاسمة بالمرأة .
بعد لقاء ريلكه بسالومي التي فتنت رجال عصرها العباقرة يفصح عن رأي متغير في مفهومه للوجود ( البشر لا يتمتعون إلا بقدر ضئيل من الوجود ،أما الذين يتنعمون بالوجود الفعلي فهم العشاق الذين لا يبقى بالنسبة لهم ( لا أمس و لا غد فالزمان تهاوى وهم يزهرون خارج أنقاضه ) الحب يحرس خطاهم عندما يتجاوزون أنظمة الزمن نحو الأبدية.
قصيدة ( التمثال ) التي كتبها عنها هي- المترنحة بين عشاقها وكبريائها و التواقة لحياة عاصفة ووجود دافق باللهب والمجازفة يقول فيها :
( ألا كم أهفو إلى صخب الدم ،
باهظ هو سكون الحجر
بالحياة أحلم ، طيبة هي الحياة
أو لن تكون لأحد شجاعة كافية لإيقاظي ؟)
يوقظها ريلكه ويحررها من سكون الحجر .
يتبع
__________
* روائية من العراق

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *