نعي الإنسان في “لسان الضفدع” لباسم سليمان


موسى إبراهيم أبو رياش*

( ثقافات )



“لسان الضفدع” لباسم سليمان، مجموعة قصصية مختلفة ومتفردة. تتمرد على الموضوعات المألوفة التي تُعنى بها القصة القصيرة، وتتناول موضوعات جديدة، ومشكلات تؤرق العالم، وقضايا إنسانية وبيئية وكونية تتجاوز الحدود والقطريات، لتلتقي مع اهتمامات الآخرين في أرجاء الكون الواسع. 
إنَّ باسم سليمان ينعى الإنسان بمعناه الحقيقي في هذه المجموعة، هذا الإنسان الذي تنكب فطرته ورسالته في هذا الكون؛ ليتحول إلى وحش مفترس، ينشر الخراب والدمار أينما حل. فالإنسان كما يفترض أن يكون لا وجود له في هذه القصة، وحلت مكانه مسوخ تمارس القتل والإفساد والظلم، ولم ينجُ من شره أحد، فطغى وتجبر، ويوشك أن يجر الأرض إلى نفق مظلم.
“لسان الضفدع” نصوص قصصية، تتجاوز الزمان والمكان، فهي تتناول موضوعات وقضايا ومشكلات لا تقتصر على مكان دون آخر، ولا ترتبط بزمن معين، وهذا ما يكسبها أهمية استثنائية؛ كونها تطلق صرخة قوية تنطلق بعيداً علها تصل كل مكان، وتبقى أصداؤها تتردد عبر الزمان.
“لسان الضفدع” كعنوان لا تحمله أي قصة من قصص المجموعة، وربما بدا غريباً وشاذاً، ولكن لو ربطناه بأن المجموعة تنعى الإنسان، وتعيب عليه دوره المنحرف في هذه الحياة، فإنما تشبهه بلسان الضفدع الطويل جداً الذي لا يتفق وطوله وحجمه، حيث يقوم بقذفه بسرعة صاعقة إلى الخارج للقبض على الفرائس الصغيرة. وهكذا الإنسان عندما يتنكب السبيل، ويتحول إلى أداة هدم وتدمير. ولكن الضفدع يستحق منا اعتذاراً، فهو لا يصطاد إلا ليأكل ما يكفيه، بقدر حاجته، أما الإنسان فإنه يمارس الافتراس بطراً ولهواً؛ رغبة في الإيذاء، دون حاجة أو ضرورة. 
قصة “الأمنية الرابعة” تبين جناية الإنسان على الكون والحياة، إذ لا يتورع أن يبطش ويقتل ليشبع نزواته ورغباته، فبمجرد أن تحول العصفور إلى إنسان، تحول إلى وحش مرعب، لم يسلم منه حتى المارد الذي كان سبباً في تحوله. وهي قصة تؤكد حقيقة صادمة أن الإنسان لا يوظف علمه وقدراته وإمكاناته لخدمة الحياة، بل للقضاء عليها، وهذا ما نراه ونشاهده حولنا بكل فجاجة.
وتأتي قصة “الحلقة المفقودة” لتفضح الإنسانية المشوهة، التي عافتها حتى الكائنات الفضائية، فلم تجد مكاناً مناسباً غير ملوث لتهبط فيه إلا غابة وسط القارة الأفريقية، متجاهلة كل الدول المتقدمة. ولم تلبث إلا قليلاً ثم عادت أدراجها بعد أن تركت رسالة تأنيب لأهل الأرض، أنهم مجرد مسوخ لا يشرفها التواصل معهم أو التعرف إليهم.
“أجنة إرهابية” قصة مرض غامض يقتل الحوامل، حيث تتحول الأجنة إلى أخطبوط تمتد استطالاته إلى قلب الأم فتعتصره إلى أن ينقطع وتموت الأم. ولما أوشك أحد العلماء اكتشاف العلة للتوصل إلى العلاج المطلوب، يقتله مساعده، منعاً لما يخفف الآلام، ويوقف الرعب الذي يستشري. وهي قصة تتقاطع مع معلومات تشير بشكل أو بآخر إلى احتكار بعض شركات الأدوية عابرة القارات لأدوية معينة، بل إن بعضها توصلت –كما يقال- إلى علاج بعض الأمراض الخطرة، ولكنها لا ترغب في تصنيعها رغبة في استمرار مكاسبها وأرباحها من بيع الأدوية المسكنة التي تخفف من المرض ولا تقضي عليه.
وعندما تحتج سرطانات البحر في قصة “ترجمة” على تشويه اسمها وإطلاقه على مرض السرطان الخبيث، وتقرر أن تخرج بقضها وقضيضها على الشواطئ لإعلان موقفها الرافض لذلك، يجدها الإنسان قصير النظر فرصة للصيد السهل الوفير، ولا يسعى لمعرفة سبب هذه الظاهرة وما ورائها، بل إنه لا يحسب حساباً لطوفان هذه السرطانات التي قد تشكل خطراً على حياته ووجوده.

أما قصة “ما يقوله صياح الديكة” فهي تفضح حكام الغفلة الذين يقلبون الموازين، ويجعلوا أعزة أهلها أذلة. ولولا الاختلاف والفرقة لما تسلل الغريب وسط الهرج والمرج، وتمكن في الأرض، ونشر فساده وخبثه.
“أعلمه الرماية كل يوم …فلما أشتد ساعده رماني” هذا ملخص قصة “تكون أو لا تكون”، فالإنسان عندما يخالف الطبيعة ونواميس الكون، يعمل على إحداث طفرات كونية لا تحمد عقباها. فالمفكر الهمام علم الصرصار، وهذا عندما تعلم وأصبح قادراً على التفكير، تمرد وهجر المفكر، وقاد ثورة نووية ضد البشر، ليخلو الكون لأمة الصراصير دون غيرهم، على اعتبار أن الصراصير لا تتأثر بالقنابل النووية. وهكذا الإنسان عندما يصرف وقته وجهده وعلمه في غير مكانها، فليتحمل وزر ذلك.
قصة “شاعر الاحتباس الحراري” تعلن غضبة الطبيعة على مدعي الشعر الذين شوهوا المعاني والصور، وتجنوا على الطبيعة بأوصافهم البشعة، وتشبيهاتهم الشاذة، فلم تتحمل الطبيعة هذا الزيف والتشويه، فأعلنت صرختها محتجة غاضبة لا تقبل المهانة والسكوت. وهي قصة تعيب على بعض الشعراء شططهم وقلة بضاعتهم وضعف نصوصهم. وهي دعوة للنقاد لغربلة هؤلاء وكشف معدنهم.
“من قلبي لقلبك” قصة مدرسة القلوب والضمائر الميتة المريضة، التي أصبحت للأسف مدارس شائعة منتشرة في كل مكان، تعلم الناس الزيف والخداع والغش والفساد، وهي تذكرنا برواية “أرض النفاق” ليوسف السباعي.
وبعد، فإن “لسان الضفدع” لباسم سليمان، مجموعة قصصية متميزة شكلاً ومضموناً، اهتمت بقضايا كونية تؤرق كل إنسان ما زال يتمتع بفطرته. وهي مجموعة تستحق الترجمة إلى لغات أخرى لأن ما تناولته يهم أولئك البشر الذين يبحثون ويسعون لإعادة النقاء إلى الأرض. كما أن بعض قصصها يمكن أن تتحول إلى أفلام قصيرة مدهشة لما تحمله من موضوعات توفر أرضية خصبة لهذه الأفلام. وهي مجموعة يمكن أن تقرأ بأكثر من مستوى، فهي نصوص حمالة أوجه، تؤكد إبداع كاتبها وريادته في هذا المجال الغائب أو يكاد عن الأدب العربي.


* ناقد من الأردن

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *