الوهراني والسخرية الفنطازية من مثقفي زمانه


*علاء اللامي

قد لا نجد في الأدب العربي القديم مثيلاً لتلك النصوص التي كتبها الشيخ ركن الدين الوهراني (عاش في القرن السادس الهجري الموافق للسادس عشر الميلادي). وكما يشير اسمه فقد ولد في مدينة “وهران” عاصمة الغرب الجزائري اليوم، ولكنه عاش معظم عمره في مصر وأقام في الشام في طريقه الى عاصمة الإمبراطورية العباسية “بغداد” التي كانت تعيش فترة أفولها الحضاري في عهد الخليفة المستضيء بالله بن المستنجد بالله وأمه هي الجارية الأرمنية “غضة”. ولا يبدو أنّ رحلته إلى بغداد قد نجحت، فقد عاش على الهامش طوال حياته ولم يكتشف الناس والمهتمون بالشأن الثقافي والتراثي فنه وعلمه وشخصيته الخارقة إلا بعد موته أو قبل ذلك بقليل. لم يترك الوهراني الكثير من المؤلفات بل لقد جمعت المقامات والمنامات والرسائل التي كتبها في مجلد واحد صدر في القاهرة سنة 1968 وحققها بمهنية عالية إبراهيم شعلان ومحمد نغش ومراجعة الناقد الكبير د. عبد العزيز الأهواني ولا أستبعد أن تكون بعض كتابات الوهراني قد نشرت قبل ذلك في كتيبات متفرقة.

الوهراني في كل ما كتب، كان يسخر بمرارة وجرأة مدهشة من الناس والزمان والظواهر الفاسدة والذات، فلا شيء خارج دائرة لسانه اللاذع السليط ونقده العميق الذي لم يستثنِ شيئاً أو أحداً ولكنه خصَّ النخبة المثقفة أو ما نسميها اليوم طبقة “الانتلجنسيا” من شعراء وقصاصين وقضاة وفقهاء وأمراء وتجار كبار وغيرهم بحصة الأسد من سخريته السوداء وهجائه اللاذع الفضّاح، ولم يستثنِ الوهراني نفسه من هذا الهجاء والنقد فقد نقل قول أحدهم في حقه بأنه – أي الوهراني – رغم تفاهته (يتمكتب ويتمشعر) أي يكتب النثر ويقول الشعر ونبرة التهكم والازدراء واضحة في هذه الكلمات. كما لم يسلم من لسانه الصوفية ورجال الدين الذين قال عنهم “هربوا من كدِّ الصنائع والأعمال الى الزوايا والمساجد والمشاهد بحجة العبادة والانقطاع فلا يزال أحدهم يأكل وينام حتى يموت.. إنهم كالخروع في البستان يشرب الماء ويضيق المكان..”.
إنها سخرية تدفع القارئ أحيانا الى الضحك بصخب والى القهقهة في البداية وبعدها الى الغرق في التفكير العميق في ما هو تحت طبقة المقول المباشر. غير أن مشكلة القارئ المعاصر هي أنه قد لا يفهم الكثير من تفاصيل الحياة اليومية التي عاشها الوهراني واللغة الإيحائية أو المباشرة التي كتب بها. لقد اعتمد الوهراني أسلوب السخرية والتهكم في الكتابة، وجمع نصوصه في كتاب دعاه “أنيس كل جليس” وفيه نجد الكثير من رسائله ومناماته ونصوصه الهزلية. فقد كتب مرة على لسان بغلته رسالة إلى الأمير عز الدين موسك ابن خال صلاح الدين الأيوبي وأحد أمرائه قائلا: “المملوكة ريحانة، بغلة الوهراني، تقبل الأرض بين يدي المولى عز الدين حسام أمير المؤمنين، نجاه الله من حر السعير، وعظَّم بذكره قوافل العِير ورزقه من القَرط والتبن والشعير ما وسق مائة ألف بعير، واستجاب فيه صالح أدعية الجم الغفير من الخيل والبغال والحمير”.
وهنا، نلاحظ أن الدعابة وخفة الظل تسمان ما يكتبه الوهراني بميسمهما وقد قال عنه الباحث السوري صلاح الدين المنجد: “هو ثاني اثنين سلطهما – القدر؟ – على أهل دمشق أيام الأيوبيين، ابن عنين في كتابه “مقراض الأعراض” شعراً، وهو في “رسائله” و”مناماته” نثرا”.
ومما توقفت عنده في قراءتي للوهراني وشعرت بأنه حي وذو علاقة بزماننا وأخلاق وعادات نخبتنا المثقفة أو المتثيقفة المحطات التالية أقتبسها هنا تحية لروح الشيخ الوهراني:
– في المنام الكبير الذي وصف فيه المحشر وتفاصيل يوم القيامة والحساب وما حدث له ولصاحبه عند الحوض وكيف شاهد أربعاً من الشخصيات التاريخية وهم يرقصون و (يتزهزون) فرحاً بغفران ذنوب أحد كبار المذنبين، تفاؤلا بأن المغفرة الربانية قد تشملهم. وهؤلاء الأربعة هم: الخارجي عبد الرحمن بن ملجم قاتل الأمام علي بن أبي طالب، والشمر بن ذي الجوشن، قاتل ولده الحسين وصحبه، والحجاج بن يوسف الثقفي حاكم العراق الدموي في عهد بني أمية، والشيخ أبو مرة “إبليس”! وكيف أن عزرائيل كان يتشفع للأطباء ويهتم بهم ويحنو عليهم لأنهم كانوا يسهلون عمله في الدنيا حين يقوم باختطاف أرواح الناس في هجاء مبطن لأطباء عصره وتسببهم بموت الناس جهلا و خطأ. أما أطرف مُلحة في هذا المنام فهي المتعلقة باللقاء بالملاك المكلف بجهنم واسمه “مالك خازن النار” وكيف حاول الوهراني ملاطفته ومناداته باسم دلع خاص هو “مال” اختصاراً وترخيماً لمالك عساه يتلطف به وكأنه عارف بمصيره الجهنمي!
ومن خروقاته التي يمكن وصفها بالسوريالية أو الفنطازية مقامة كتبها على لسان جامع دمشق يلقي فيها الجامع خطبة في مؤتمر للجوامع والمساجد! وله خطبة أخرى على لسان مئذنة، وكتب رسالة على لسان كلب موجهة الى كلب آخر قال فيها: “كتب كلبٌ إلى كلبٍ: أما بعد يا أخي ـ أدام الله حراستك ـ فإن بني آدم قد تسافلوا إلى حدٍّ ما عليه من مزيد، حتى بقيت أنا وأنت بالإضافة إليهم كمعن بن زائدة وطلحة الطلحات. فارتع في المجازر، ونمْ في المزابل، وارفع ساقك، وبُل على من لقيت منهم والسلام”.
ومن طريف ما كتب الشيخ الوهراني مقامة نقدية ساخرة عن الفقهاء ورجال الدين بعنوان “شمس الخلافة” وهي عن عجوز مغربية كانت (مُحكَّمة في خمسين فتاة، وقد اشتهرت بالرفق والأناة، فجاءها الشيخ أبو الخرا يطلب بيتا للكرا، وهو كما رأيت قد جمع بين الجفا وغلظ القفا.. فتوسمت فيه عظيم الآلة فسرى في خيالها وسال عليه ريالها.. (ص98 المنامات) وقررت العجوز التي سيلقبها الوهراني بالعلافة أن تصنع من الشيخ فقيهاً فتزوجته ثم سهرت على تعليمه الفقه والعلوم الأخرى والاهتمام بمظهره ليكون بمظهر الفقهاء ولكنه فشل في مهنته هذه فاشتغل في مهنة “العونية” التي ربما كانت مهنة غير شريفة أي بما يشبه مهنة البلطجي أو القواد في زماننا، مهنة تعتمد على القوة البدنية والاعتداء على الناس فنجح فيها أيما نجاح، فقال عنه الوهراني: “وصار الشيخ زوج العلافة يلقب بشمس الخلافة”.
وللوهراني مقامة عنوانها (نسخة عهد تقليد قاضي قضاة الفاسقين) يتعهد فيها أمام الملأ باسم (القاضي الأجم فخر القيادة وتاجها، وقطب المعاصي وسراجها، وعز العلوق وعمادها، ركن اللياطة وزنادها، جمال الفسقة وعينها، وشرف الزناة وزينها..) ومن نماذج هجائه لتصرفات الحكام نختم بقوله: “ثم أن الملك المعظم – أدام الله أيامه – كما تعلم، ينهب الأيام نهبا، ويقطع الأوقات الى اللذات وثبا، أنفق بعد وصوله الى ديار مصر نحواً من مائة وسبعين ألف دينار، كأنما وقعت في بئر، فلم يظهر لها حس ولا خبر، إلا على المساخر والقوادين..” ومثلما ظلت عبارة (لا حس ولا خبر) حية في اللهجة المعاصرة المصرية، سيظل أدب الوهراني الساخر، لاذعاً وحيَّاً وكاسرا، يسوط الظالمين بشدة، ويلقي أحجار هجائه بحدة، في مستنقع السائد والحاضر الراكد، فيطري السليم وينفي الذميم.
ومن تشبيهاته الطريفة المأخوذة من يوميات الأمراء والأغنياء الفاسقين وسخريته منهم ومن عاداتهم وممارساتهم قوله: “في عينيه الروض غبَّ السحاب، وأطيب من الصفع بخفاف القحاب، لا والله إلا أعذب من محادثة السمار وألذ من مماكسة الخمار، و لا والله إلا أحلى من مطابقة الزامر للعواد وأشهى إلى النفس من مواعيد القواد”. (ص 103) والمماكسة أخذ المكس أي الضريبة أما الزامر فهو العازف على الزمور أو الزمارة والعواد زميله العازف على العود.
وأخيرا فلم يترك الوهراني باب نقد الشعر في زمانه إلا وخاض فيه وكانت له أحكام غاية في القسوة والسخرية من عدد من شعراء زمانه ومن ذلك هذه النماذج:
تعليقه على البيت القائل:
إذا وطئ الضرغام أرضاً تضايقت
خطا وحشها عنه فيوسعها هزما
فقال عنه: “فإنه وإنْ كان من الشعر الذي تمجه الأسماع وتشنئوه النفوس فما له عندي من جواب إلا بالضراط المغربي الصلب يُصفى في جوف لحية قائله من مكان قريب”.
أما قول الشاعر:
كما مر بازٌ بالفضاء محلق
رأته بغاثُ الطيرِ حتفاً لها حُما
فقال عنه: “فكل من خلق الله يعلم أن ما لهذا من جواب إلا التفقيس في جوف قراقيش خيشوم أنف قائله لما جمع من الكذب والرقاعة وقلة العقل والحماقة.
أما قوله:
فما مُنصفٌ ممن ترقت به العُلا
يرى أنه من أخمصي فوقه وصما
فهذا البيت والله من الشعر النحس؛ الذي لو بقي في بطن قائله لأخذه القولونج زائدا على ما فيه من التدقنصرم والرعونة المعجونة بالتبضرم والقحة والاستخفاف بلحية الممدوح والسلام”. (229 المنامات). ويلاحظ القارئ أن الوهراني يشط أحياناً في السخرية إلى درجة اختراع وابتكار الكلمات والأسماء لأشياء ومسميات لا وجود لها، ولم يبلغ كاتب قديم في التراث العربي هذه الذورة من السخرية العجيبة والمتمادية والخارقة عن كل سقف معهود في النثر أو الشعر.
________
* كاتب عراقي(العالم )

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *