معرض برتيزيان: رمزية و سريالية


*ضحى عبدالرؤوف المل

يضعنا «رازميك برتيزيان» تحت تأثير اللون والأسطورة. إلا ان الحركة العامودية في لوحاته تتخذ ابعاداً رمزية، مفتوحة على ايحاءات سريالية اسطورية. تجعلك تسأل عن المضمون والمعنى في لوحات اختلفت فيها الأشكال الأنثوية، وكأنه يستعرض مراحل الوجود من الأسطورة الى الخيال، لنصل إلى الواقع الممزق ميثولوجيا، وقد تجردت فيه المرأة من كل حيوية مرت بها خلال العصور القديمة والحديثة حتى الان، فهل يروي «رازميك برتيزيان» قصة انسانية نجدها في التاريخ الاسطوري لامرأة ولدت من الزبد؟..ام انه يربط مفهوم المضمون مع الاسلوب التكنيكي، لالوان منحها اشراقة نهار مضىء كي لا نتناسى الميثولوجيات العالمية؟. حيث لجأ الى لغة الوصف اللوني، والسرد التعبيري الحركي المنسجم مع الحركة العامودية المتوازية تكوينيا، وشكليا، وفراغيا، ليظهر براعة ريشة اتقنت اظهار الفكرة جماليا، ومنحت الالوان الفسفورية راحة بصرية رغم قوتها وسطوعها، فاللون الابيض الهادىء المختلط حركيا مع الاحمر المشتعل. يمنح المتأمل للوحاته غنى وجداني، وحس فني يسبب حوارا غرائيبا داخل نفس تسمو مع «افروديت» وقصة وجودها، فالتعبير، والسرد، والوصف والعناصر الفنية المتجانسة هارمونيا. تتكامل مع الرؤية والفكرة، والمضمون، والاخراج الفني. مما يمنح قوة التأليف التشكيلي جاذبية. تستريح فيها الحواس الادراكية للموضوع.
سرد لوني وحركة بصرية فنية، واسطورة تشكيلية متأثرة بسريالية عصر حديث، حيوي تجلى في فلسفة شمولية. منحت «رازميك برتيزيان» القدرة على الخلط الفني التعبيري، ليتناسب مع الذوق الكلاسييكي، والحديث من خلال تقنية اعتمدها، والتزم بها تصويريا، مانحا «افروديت» دلالية انثوية رمزية. اشتعل فيها اللون الاحمرالانفعالي الملتصق بالأبيض اللزج، والحالم ضوئيا، وكأنه يعزف سمفونيات تأتلف ابقاعيامع الحركة واللون، عبر ليونة الخطوط المتماوجة في انحناءات عاطفية تتكرر حيويا، وكأنه يكتب رسالة انسانية الى «افروديت العصر الحديث، ليمنحها القوة مجددا في زمن كثرت فيه عمليات التجميل، والقدرة على تغيير المظهر الانثوي، ليواكب لغة عصر سلب من المراة انوثتها الخلاقة. مما جعلها تنسلخ عن هويتها الاسطورية الجمالية، لتتجه نحو الانحياز العصري، وما يتطلبه من تغييرات جعلها تخلق اسطورة اخرى. وضعتها في لعبة شبكية الكترونية، وصورة اعلامية جردتها من فطرة خلق باهرة جمالية، لتتقيد في لوحات اخرى قدمها «رازميك برتيزيان» في رؤية بارعة تمزقت على عتباتها التناقضات التي تمر بها المرأة حضاريا وجماليا.
نكوص تشعر به المرأة تحديدا، وهي تتأمل لوحة «افروديت» فالانتماء الانثوي الحالم لكل لوحة، وما يرافقها من تغيرات حركية وشكلية، ولونية جعلها تستريح نفسيا عند «افروديت» وشعرها الأحمر المتماوج بصريا. حيث تتراقص الحواس مع كل رمز بصري قدمه «رازميك برتيزيان». بل وقسمه الى مراحل ابتكرها، وانخرط في اخراجها سينوغرافيا، بما يتناسب مع الطول، والعرض، والعمق، ومع المساحة، والضوء، والظل، واللحظة الزمنية الميثولوجية، كرغبة في اظهار النسبية المدروسة اكاديميا، لجذب المتلقي ويتحاور معه من خلال النص اللوني، والفكرة المندمجة في المعاني الجمالية.
موضوعية ذاتيية وتعبير وصفي لوني، ورمزية تميزت بابتكار خطي لوني مرن، منسجم مع الضوء تقنيا، ومرتبط مع الوحدات الفنية التشكيلية التي يعكسها على مفهوم المزج التقني المتناسب هندسيا مع حركة الجسد الانثوي، وحيويته المختلطة نورانيا بقدرة الخلق التي تمنح المرأة سر جمال مفعم وآسر تصويريا. لانه يخرج من مخيلة مشبعة بيولوجيا بالاحساس الانثوي، عاكسا وجوده الذكوري بالقدرة على خلق انثاه التائهة بين الميثولوجيا والواقع.
زبد ابيض تجريدي استرسل «رازميك برتيزيان» في منحه الضوء لتحملنا «افروديت» نحو عوالم الحلم، في مسافات تتناسب مع مساحة اللوحة، والنصوع المتوثب رقة، وكأنه يلفها بالهواء، ليخلق اثارة حسية حالمة. تبعدنا عن قناع وضعه على وجه امرأة اخرى، وضمن الوان باهتة ولون ابيض يتشظى الى اشكال ومفردات تملأ المساحة بطريقة عشوائية. الا ان الانفعالات المنبعثة من اللون الأحمر المثير للانتباه. لم تترك الأبيض وحيدا جافا، بل امتزجت معه الألوان الأخرى بشفافية واضحة لامعة، وطول موجي معتدل ساعد في نسج لوحات ترمز للوجود والجمال. مما ذكرني بقول شاعرنا ايليا ابو ماضي»:
ولم يك ذيلا، شعرها المتهدل
فتاة هي الطاووس عجبا وذيلها
سكون حالم عميق دلاليا. تتنوع فيه الاضاءات السردية والفواصل اللونية، والتشكيل الهادف الى خلق نماذج. اعتمدت على المحاكاة الحسية المشبعة بالوجدانيات الميتافيزيقية، التي تدفع المتلقي الى التأمل، وتمنح المخيلة اتساعا، لتدرك القيم الجمالية والتوزيعات النسبية للون والخط والشكل، فيتحرر الفكر من الهندسة الرياضية، ليدخل في الهندسة اللونية متنقلا بين الحقيقة والخيال، وبين التطور الشمولي للامم والحضارات، واندثار الميثولوجيا، وخلود الفن بكل انواعه، لتصبح «افروديت» في كل زمان ومكان. هي اسطورة تشيكيلية تحيا في مخيلة كل فنان مبدع منحها حيوية لون وشكل، ووضعها في مكان مؤطر زمنيا لا يمكن ان نتخطاه.
معرض الفنان رازميك برتيزيان في غاليري حمزكيان ويستمر حتى 30 نيسان 2013.
_________
* اللواء

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *