بروميثيوس عربيّا !

بروميثيوس عربيّا !

* خيري منصور

لم يكتشف سرّ النار، شأن ذلك البطل الاغريقي الذي عاقبته الآلهة بأن نهشت النسور قلبه العاري، وهو ايضا ليس طليقا او مقيّدا حسب التأويل الرومانسي للشاعر الانجليزي شيلي.

ولأنه لم يسرق سرّ النار فقد اضطرّ الى احراق نفسه كي يضيء وربما كان اقرب الى طائر الفينيق، الذي ينبعث من رماده، وهذا مجرّد وميض تماما كذلك الوميض الذي رآه نصر بن سيار في خراسان من عمق الرماد، فقصيدته كانت برقية الى الخليفة تنذر بقدر ما تحرّض لكن البوعزيزي حوّل جسده الى برقية تماما كالصعلوك الذي تفقد جعبته فوجدها خالية من السهام وعندئذ لم يكن امامه الا ان يطلق نفسه !

وما كتبه طاهر بن جلّون عن النار تحليلا يعقبه سرد روائي، استلهم بدوره البوعزيزي لكن على طريقته، فالرجل شاعر وروائي، لكن نشاطه لم يتوقف عند هذا الحدّ، بل اقترن منذ بواكيره بنشاط استقرائي لواقع بلغ اقصى الاستنقاع، بدءا من دراسته الميدانية بعنوان ‘ذروة العزلات’، وهي اطروحة عن احوال المهاجرين المغاربة وغيرهم ايضا الى فرنسا حيث يعيشون على الهوامش مما عرّضهم بمرور الوقت وتفاقم العزلات الى التهميش والتهشيم معا، بحيث اصابتهم العنّة وضمرت حتى اعضاؤهم مثلما ضمر احساسهم الادمي بوجودهم، وكتب الطاهر ايضا عن السّجن ومكابدات المغاربة فيه حيث عاشوا من تورطوا في زنازينه جحيما أرضيا.

في كتابه ‘الشرارة’ بقسميه الاول التحليلي والثاني السّردي، لم يُرد ابن جلون ان يفوّت فرصة اخرى، لكنه هذه المرة يقدم دفاعا عن المثقفين العرب الذين طالما اتُّهموا بالصمت او التواطؤ او الفرار، لكن ذلك يحتاج من ابن جلّون تعريفا آخر للمثقف كي يقنع قارئه بتبرئة المثقفين من فيروسات الطغيان والتخلف شديدة التأقلم والأرشق من كل محاولات التصدّي لها او التلقيح بأمصال مضادة، هي امصال الوعي.

هذه مناسبة اخرى لفك الاشتباك بين تعميم يصل حدّ التجريد ويقارب التعويم وبين تخصيص يتوقف عند الاستثناءات فقط رغم انها احيانا تكرّس القاعدة. بدءا يقدم ابن جلّون بورتريهات لرؤساء عرب راوحت مصائرهم بين الخلع والنفي والقتل والسجن، ورغم اختلاف الخطوط في البورتريهات الا ان هناك قواسم مشتركة، منها الاستبداد والاستفراد واحتكار السلطة، وبالتالي حظر تداولها.

والرؤساء المخلوعون او المقتولون او السّجناء وجدوا خلال اربعة عقود سلالة من المثقفين تحترف تبرير خطاياهم، وتزيّف حتى جرائمهم، ومن هؤلاء المثقفين او الأشباه من استخدموا كالقفازات ثم قُذفوا الى القمامة، لكن منهم ايضا من تجاوزوا هذه الوظيفة ‘الديسبوزابل’ فتحولوا الى مناديل قابلة للغسل وليس مجرد ورق يستخدم لمرة واحدة، ويهمنا في هذا السياق الفئة الثانية التي تمتطي الان موجة الحراك، وتقلب ظهر المجنّ للسادة القدامى واولياء النعم الذين فقدوا الصولجان ومفتاح خزينة الدولة.

المثقفون على اختلاف التعريفات لهذه المهنة او الصفة ليسوا بيضا متشابها في سلة، انهم بأبسط تعريف لغرامشي يعبّرون عن فئات اجتماعية وطبقات وبالتالي مصالح، لهذا لا يمكن ان نجانس بين مثقفين قضوا في السّجون او على الأرصفة وبين من يسميهم د. علي الوردي وعّاظ السلاطين .

‘ ‘ ‘

ان الواقعة التاريخية قد تكتفي بنفسها وتنغلق على سياقها التاريخي والمكاني، وقد تتعرّض الى تصعيد وبالتالي ترميز، فثمة في العالم العربي من احرقوا انفسهم او انتحروا في السّجون او تاهوا كأنهار لم تجد المصبّ، وليسوا جميعا قد تحوّلوا الى شرارات ورموز، واعرف شخصيا ان هناك عدة حالات انتحار حرقا حدثت بعد انتحار البوعزيزي واحدة شاهدتها بنفسي، لكنها لم تجد الصدى الذي وجده احتراق البوعزيزي.

لا بأس اذن ان يتولى الادب والفن ترميز وقائع تراجيدية من هذا الطراز، لكن حين يتعلق الامر بالتحليل لا السرد فقط فإن ما انفجر في اربع او خمس عواصم عربية خلال العامين الماضيين هو عدة مكبوتات قد تصل في الحد الأدنى الى سبعة، منها الجنسي والطبقي والنفسي والاثني … لهذا فالوقائع بحدّ ذاتها هي القشرة الهشّة التي اندلع من خلالها البركان الذي بحث طويلا عن متنفس يتيح له الاندلاع في باطن الأرض . هنا لدينا براكين من طراز آخر في باطن التاريخ ايضا، لهذا لم يكن الحراك الذي بشّر بالربيع كطائر السنونو وحده في الأفق بل لاحت ايضا بالقرب منه بومة هيغل التي تنعب في الغسق، والعين الكليلة التي تبتكر السراب من صميم الرمل هي ذاتها التي لا تفرّق بين الغسق والشفق، كلاهما لحظة تشبه انعدام الوزن، فالشمس في الشفق لم تشرق بعد وهي ايضا في الغسق لم تغرب بعد، لهذا فنحن لا نزال نعيش اللحظة الحرجة، فما سقط لم يسقط تماما، وما أقبل لم يقبل تماما، ذلك لأن الحراك البركاني الذي أفرزه تراكم الاستبداد ولد بلا رأس وأشبه بكتلة تسعى من احشائها الى ان تجترح رأسا، فالمصريون مثلا يتذكرون مثلا شعبيا في هذه الايام العصيبة هو ‘وعدتني بالحلق فخرمت أذني’ والحراك وعدَ بأكثر من هذا الحلق الذهبي، لهذا خرم ثلاثة ارباع الشعب آذانهم، ولا تزال مثقوبة والدم يسيل منها.

‘ ‘ ‘

من لم يسرق سرّ النار اكتفى بأن يشعلها في جسده وقد استطاع ان يضيء لكن الشرارة التي تخطت المكان لم تصل بعد الى الهشيم، لأن الحراك رغم براءته وجد كالعادة من يحوله الى مادة خام كالنفط او مناجم الذهب لاستثماره، ومن هنا جاءت عسكرة الاستشراق لتفتضح سايكس بيكوية جديدة، لكن بطبعة عربية منقّحة بحيث يصبح الواحد قابلا للقسمة على كسور عشرية.

نعرف بالطبع ان بروميثيوس لم يسرق سرّ النار ويدفع الثمن من قلبه العاري على امتداد الزمن من اجل ان يشوي لحم خروف او يسلق البازلاء، فالنار ليست وسيلة او اداة فقط، انها تبحث عن مجال حيوي ان لم تجده تأكل نفسها، لكن النار ايضا وحسب تصور جمالي لـ ‘غاستون باشلار’ ذات تجليات لا نهائية، فهي كالماء ذات سلاح بحدين، من يقترب منها يحترق ومن يضبط المسافة منها يتدفأ تماما كالماء الذي قليله يحيي ويروي وفائضه يغرق ويميت !

‘ ‘ ‘

لقد صدرت عشرات الكتب خلال العامين الماضيين عن الحراكات العربية وعلى اختلاف منسوب حرارتها، لكن النار التهمت على الفور اكثر تلك الكتب، وما وصل الى القارىء هو رمادها، لكنه رماد عقيم لا يُرتجى منه عنقاء او فينيق، لكن ما كتبه الطاهر بن جلّون يفلت من هذا المصير، لسببين اولهما انه لم يتخلّ عن لغته وادائه السردي حتى وهو يحلل، وثانيهما ان المحاولة تلتئم في سياق يخص الكاتب الذي بدأ من أقصى العزلات وبلغ أقصى المشاركة، رغم المنفى المزدوج لغويا وجغرافيا.

وما يجب الاحتراز منه هو ان الارهاق النفسي والعاطفي الذي ابتلي به اكثر العرب في العقود الخمسة الماضية قد يتحكم بحركة الكاميرا بحيث تبالغ في تضخيم بعض زوايا المشهد حتى السَّرطَنَة وتبالغ ايضا في اظلام زوايا اخرى لأن التوازن النفسي شبه مفقود، والبوصلة تعاني من عطب لا يخلط الجهات فقط، بل يتجاهل جهة خامسة هي باطن النفس العربية وما تعجّ به من عشوائيات ومكبوتات، يحجب السياسي منها طبقات متراكمة !!

_________

*(القدس العربي)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *