فتوحات إبداعية


* خليل قنديل

تبقى الكتابة الأدبية قادرة على أن تغط في نوم عميق قد يمتد الى أكثر من قرن، لكنها وفي مفصل زمني غير متوقع تُحدث زلزالها الذي يقلب طاولة الواقع على رأس الجالسين بنوع من الهناءة البقرية.

والأمثلة كثيرة في هذا المجال، فالكتابة الروائية ظلت قبل ظهور رواية دون كيخوت مهلهلة، وتقترب من الخراريف الطويلة التي من الممكن أن تسرد لعائلة قروسطية تلتف حول مدفأة، لكن سرفانتيس فجر قنبلته الكتابية في روايته ذائعة الصيت «دون كيخوت» فكانت هذه الرواية بمثابة انقلاب على كل أنواع السرد الذي كان سائداً في ذاك الزمان.
وبعد هذا المُنجز الروائي العظيم كان على كتاب الرواية وفي جميع أنحاء العالم البدء بالعمل على كتابات روائية ناضجة، وبهذا كانت رواية دون كيخوت هي المفجر الأول لطاقات الرواية الحديثة.
وعليه كان على السرد الروائي أن يتنفس قليلاً بعدما أثقل الشعر بوجوده الدهري على الأشكال الابداعية كافة، حيث بدت الرواية العالمية وبعد سرفانتيس كأنها تتنفس الصعداء وهي ترى الطرق الى كتابة الرواية سالكة.
وحتى على مستوى الشعر فإن رواداً مثل بودلير ورامبو وت.اس.اليوت استطاعوا بالقصيدة المزلزلة التي فجروها في سياق التجارب الشعرية السائدة أن يحدثوا انقلابهم الكتابي الخاص بنوع من الفتح الكتابي، وأن يستدرجوا لاحقاً تجارب شعرية من جميع أنحاء العالم للحاق بركب قصائدهم، حيث أخذت التجارب الشعرية الجديدة تنحو المنحى الذي سلكه هؤلاء، معتبرين أن هذا النطق الشعري الجديد هو أحد الفتوحات المهمة في الشعر الحديث والتي تصلح لأن تكون حالة اقتداء.
ومثلما ذهبت الفتوحات الكتابية الى الرواية والشعر فقد حدث أن أنجز الكاتب الروسي غوغول رائعته القصصية «المعطف»، التي كانت فاتحة للارتقاء بكتابة فن القصة القصيرة، بحيث ذهب النقاد في العالم إلى القول بأن القصة القصيرة في العالم جميعه خرجت من معطف غوغول.
وكتابة غوغول القصصية هي التي فجرت لاحقاً ينابيع القص عند تشيخوف وعند موبسان، بحيث إن ريادة هؤلاء جميعاً في مجال القص قد جعلت من الصعوبة الكتابة قصصياً خارج النهج القصصي الذي أسس له كل هؤلاء.
وما دامت الأمور تسير على هذا النحو تاريخياً فإنه يمكن لنا الجزم بأن كل هذا الختل الذي يسود العالم على صعيد الكتابة الأدبية، وكل هذا التشتت في الأجناس الأدبية واندغامها الصبياني والقسري مع بعضها ربما يكون إشارة أولى الى فتوحات كتابة ناهضة، تكون قادرة بالعمل الإبداعي المُدهش على قلب الطاولة على الجميع، بكتابة جديدة وحافرة تُعيد للأدب ألقه الخاص والمدهش.
وهذا ما علمتنا إياه الفتوحات الكتابية تاريخياً.
______
* كاتب من الأردن 
( الإمارات اليوم)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *