سلامة عينيكي يمّة


قيس الدمشقي *
( ثقافات )



تتراقص أقمار التفاؤل والأمل بالثقافة ومستقبلها في أبوظبي كلما ولجت بوابة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات الذي هو في مبنى المسرح الوطني وعلى مرمى دقائق شغف من مسكني؛ فما إن أخطو داخل المبنى حتى تحتل جوانية روحي ترانيم البيانو المتموسقة على الجانب الأيمن من الطابق الأرضي، ويكاد الفؤاد يطير فرحا بتلك الأنامل الصغيرة التي تتهجى مفاتيح البيانو كأنها المحاولات الأولى لرضيع يهمس ماما.


في تلك اللحظات أحار هل أسلك يميني مقتربا من هذا الحس العميق أم أميل يسارا نحو لوحات تفر منها خيول تتأهب لقتال وتثير من حولها نقْعا فتوسط به جمْعا ، لكني أظل ساعيا بين نداءات البيانو وآيات صهيل الخيول لأعود مغناطيسيا للتوقف قبالة نسوة طاعنات في الطيبة والعمر. انطلقن من بيوتهن البسيطة فاتخذن من تعدد مهاراتهن مجلسا في قاعة “الحرف اليدوية التقليدية” فاصلاتٍ بين رقة الموسيقى وعذب صهيل الخيول وتفرغن لبث روح التراث الحميم في جسد حداثة المكان. لكم أحسستهن جميعا تلخصن بـ” حمدة” أمي. تلك المرأة المتعددة المواهب قبل أن يهن العظم منها ويتخذ قوامها نضالا موجعا ضد التقوس واتخاذ شكل الهلال فيه ويضعف بصرها الحاد مثل اشتياقي “المرعب” لكفيها تمسح بهما غبار تعب الصحراء عن وجهي.

في “قاعة الحرف اليدوية” ثمة امرأة سريعة اليد في غزل ألوان الحياة بروح المحبة والألفة ذكّرتني مذ التقت عيناي بمهارة يديها بأمي وكيف صحوت طفلا على أصابعها الماهرة المحترفة وقد التحمت برؤوس أصابعها “سنارتا” غزل الصوف فراحت ترسم من الخيوط المتكومة ما يقي صغارها برد التشارين والكوانين، ومن دون إغفال اللمسة الجميلة بتناسق الألوان وحسن تناغمها حتى يظن من يرى غزلها أنه لن ينكث جمالياته من بعد قوة ناقد أو متذوق مرهف. كانت ذات عين نافذة الحس في اختيار الألوان التي تبدأ بها وتدرك سريعا متى تنهي هذه المساحة أو تلك لتوازيها مساحة لون أخرى ومن دون مساعدة الآلات أو رسومات الكمبيوتر؛ فالأمر كان على موسيقى الريح المولولة في حارتنا القديمة منتصف ثمانينات القرن المنصرم .

فيما كانت أمي أيضا تصنع الجوارب الصوفية(الكلاكيل) لأحفادها وحفيداتها ب “سنارة واحدة مقابل إصبع” فتذهل نسوة حارتنا الطيبات بهذه “الحركة” الفريدة حتى أطلقت شقيقتي الراحلة “بسمة” ذات الثقافة الطريفة والنكتة العذبة على أمي لقب : “ذات السنارة” وأضافت أن هذا اللقب يصلح عنوان رواية ستكتبها إن أبقاها الله وصارت كاتبة، وظلت بسمة “وراء” أمي حتى “انتزعت” منها فردانية اللقب فصارت خليفتها في إجادة الغزل بسنارة واحدة وإن بسرعة أقل من “ذات السنارة”!
كما ذكّرني وقوفي عند نسوة الحرف التقليدية الطاعنات في تعب السنين بحنان نظرات أمي وقد بادلنني نظرات المحبة والحنان والعطف، ووقع في قلبي أن بعضهن ذهب بهن الظن بأني “مدني خالص!” مذهول بشيء أراه أول مرة في حياتي ليس إلا.

ذكرتني ملامح التعب في وجه إحداهن – أم عبد الله – بأمي حين كانت تفقد أعصابها فجأة فنهرب من حولها إذا ما شكّت الإبرة إصبعها نتيجة السرعة الزائدة وعدم توخي قواعد السلامة والنظر إلى ثنيات ما كانت ترتقه أو ترثيه لنا من جديد وبالي الثياب الذي لا تفرط فيه حتى “يفرط”!
وتبسمت وأنا أمر على بعض منجزات الحرف لما استرجعت أنه ظل يتنقل معي إلى كل بيت أنتقل إليه وأسرتي الصغيرة “طبق” قش كبير من ذاك النوع المخصص لـ”سفرة الفقراء” الذين يتناولون طعامهم جلوسا على الأرض. ذاك الطبق الذي تفرش فوقه أرغفة الخبز اللذيذ المختلف عن خبز الأسواق وصحون الزيت والزعتر والزيتون والجبنة والسمن البلدي وتلتف حوله أفواه جائعة بقلوب بيضاء متخمة بالنقاء.

ما يزال نظري من قاعة الحرف اليدوية يتابع ذاك الطبق المعلق في جانب شاهق عزيز من شرفة بيتي بعَمّان. ذاك الطبق صنعته أمي وأنا أرقب ولادته منذ أول “لضمة” سنارة وحتى اكتمل على سوقه بدرا يعجب المحبين و”يغيظ” نسوة الحي المفتونات بإبداع “ذات السنارة”..طبق قش بألوان زاهية تناجي الحياة وألوان الربيع وبنفسجه حبّب إلى مهجتي اللون حتى صار فتنتي.
ثمة “خطأ” بتداخل لون بآخر في أحد دواوير الطبق سألت أمي عنه وكيف سهت وهي الحريصة سلامة إيقاع الأشياء تماما كما تعرف متى تتنهد، وهي الفلاحة الفلسطينية القادرة على جبر أي “كسر” في أي قصيدة بدوية. سألتها صغيرا: كيف وقع هذا الخطأ؟ فضحكت يومها وهمست بطيبتها الجارفة مبتسمة ومعتذرة لا أدري عن ماذا: كان مقصودا لرد العين عن جمال عيوني وحدة بصري في لضم السنارة سريعا إذا تفلت الخيط نتيجة سرعتي!
اليوم أمي تعاني أوجاعا حارقة في عينيها وضعُف بصرها الحاد بحكم تعب العمر والقلب ومن طول بكائها الأحبة الراحلين والأحبة الغائبين والأحبة المرضى بشؤون الحنين الذين يحسون شوقها الجارف إلى بيت أبويها في رام الله وقد غادرته العروس الصبية ابنة السادسة عشرة صوب جنوب الأردن قبل احتلال فلسطين!
سلامة عينيكي يمة. لم أتعب ولن أتعب في الدعاء لهما والسؤال عن سلامتهما يا حبيبتي. ولم يكن من شيء أحب إلى قلبي وأكثر راحة من تلك المشاوير “المرهقة” في الشوارع المزدحمة إلى طبيبة العيون التي تحبينها لأنها متعلمة!
وتفخرين بأنها “دكتورتك” وتحبين عيادتها الواقعة في شارع مأدبا عند “مخيم الوحدات” على مرمى شوق من بيتنا القديم النائم عند قدمي المخيم في جوف تلك الحارة التي سهرت عيونك فيها على غزل أجمل المنسوجات وأطباق القش. لكم كان وسيظل يشجيني شغفك بإهداء كل ما تصنعين لبناتك والضيفات والجارات !
سلامة عينيكي يا أم فهد ..ولا بأس عليك يا شقيق الروح فهد..سلامتك “شدة وتزول”!
سلامة عينيكي يمة!


*كاتب وصحافي أردني يعيش في الإمارات.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *