الناس يمشون في دمي


*لطفية الدليمي

(الناس يمشون في دمي كما تجري المياه في الأنهار) هذه عبارة قالها الشاعر المكسيكي حائز نوبل للآداب أوكتافيو باث ليؤكد من وجهة نظر مبدع عالمي كبير على الارتباط الملهم بين الكاتب والناس و دور الأدب في تحديد الفارق بين الحرية والعبودية والكشف عن الجوانب المحظورة والمحرمة في الحياة الإنسانية المسورة برقابة السلطة في كل زمان ومكان.

يساند العمل الأدبي البارع إدراك أناس لما يحتاجونه ويتوقون إليه ويكشف عن نوازعهم الإنسانية ويجعلهم أكثر اتصالا بالحياة وأقرب إلى شطرهم الإنساني وحاجتهم إلى التحرر والمضي في صنع أحلامهم والعمل على تحقيقها خطوة خطوة عندما تحاصرهم مخالب الحظر والتحريم ممثلة بالرقابة والمطاردات ومصادرة الكتب والنصوص التي تؤولها السلطات السياسية والأيدلوجية بما يخدم روايتها وخطابها ..
يقوم الأدب بدور أساسي في التقريب بين البشر المختلفين عندما يكون للناس مكانتهم في وعي الكاتب ونتاجه ويصبح العمل الأدبي الوسيلة الفعالة والخطيرة التي توثق الصلات بين الشعوب والأعراق والديانات في جهات عالمنا للرد على الرواية الرسمية للحياة الإنسانية، فحين يقرأ الناس عملا روائيا لعمالقة الأدب يعثرون على ثيمات فكرية وقيمية تقرب بين وجهات النظر والتطلعات الإنسانية وتحرض على التمردات البناءة وتهديم المحددات التي تحجر البشر في قوالب موحدة تحول بينهم وبين النمو الروحي والازدهار النفسي والإنجاز ..
ماريو فارغاس يوسا الروائي البيروفي قال وهو يلقي خطابه بعد تسلمه جائزة نوبل للآداب (لولا الروايات لأصبحنا اقل اهتماما بقيمة الحرية التي تجعل الحياة تستحق العيش كما تجعلنا الرواية ندرك حجم الجحيم الذي ستصير إليه حياتنا عندما تداس الحرية تحت قدمي الطاغية و الايدولوجيا ورجل الدين ) ويستطرد موجها قوله الى من يستخفون بتأثير الأعمال الأدبية في حياتنا والمشككين بدور الأدب وأهميته في توجيهنا نحو منابع الجمال والحرية (عليكم أن تتساءلوا لماذا تخشى الأنظمة المستبدة – الأدب وتطارد الأدباء وتحظر كتبهم ؟؟ لأنها تعلم إن الكتب تطلق العنان للخيال والمقارنة بين ما هو عليه واقع الإنسان منقوص الحرية وبين ما ينبغي أن تكون عليه حياته وحريته )
إن الأدب الذي لايرتبط بجوهر الحياة الإنسانية ويترفع عن الناس ويسفه آمالهم ولا يأبه بأحلامهم وأوجاعهم ورغباتهم وأشواقهم للحب وتوقهم إلى متع الحياة ، سيذوي هذا الأدب ويكف عن الازدهار والتفتح وهو في مرتبة المتعالي الذي يأنف الاقتراب من تفاصيل حياة البشر وأسرارهم ..
يحدث ان يهاجر الكاتب والشاعر والرسام وقد اكتمل نضجه وموهبته الى بلاد اخرى ويتوطن في مدن غريبة ، غير ان تجارب حياته البكر في بيت طفولته ومدرسته والحي الذي نشأ فيه وعلاقاته بالناس الذين رافقهم والحبيبة التي تفتّح بين يديها عشقه للنساء ، تبقى جميعها نبعا مستديما يرفد اعماله بالثيمات والخبرات التي اكتسبها في بلاده ،ويجعلها العيش في منأى عن الوطن أقوى حضورا في ذاكرته وتأثيرا في اعماله الابداعية .
يتطرق فارغاس يوسا الى مسألة طالما اثيرت النقاشات حولها عن علاقة الكاتب بموطنه فيقول ( حب الوطن هو اندفاع لاإرادي للقلب على نحو ما يجمع بين المحبين والوالدين بأبنائهم والأصدقاء فيما بينهم ، انني احمل وطني البيرو في اعماقي ففيه ولدت ونشأت وتكونت شخصيتي وتبلورت موهبتي )
اما الرسام العراقي المهاجر الذي التقيناه في فرانكفورت فقد انتفض مستنكرا -عندما قدم أحد الاصدقاء مجموعتنا لصحفي ألماني بقوله : مبدعون عراقيون- صاح بغطرسة : 
ارجوك انا لم اعد عراقيا 
بينما كانت لوحاته تصرخ بعراقيتها.
___________
* روائية من العراق(المدى)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *