جِيل البِيتْنِكْس..أو صَخَبُ العَيْش



*تيري بايل/ ترجمة : مصطفى الرادِقي

(ثقافات)

الْتَقَطَ كُتّاب جيل البيتنكس على طريقتهم الخاصة العبارة السوريالية القائلة:” اهْجُروا كل شيء”.وكان أندريه بروتون قد دعا إلى النزول إلى الشارع بمسدس في اليد وإطلاق النار على الجموع بلا اتفاق. وكان السورياليون يأخذون خرائط طرقية،ثم يضعون أصابعهم صدفة على وِجهَة ما،فيتوجهون إلى الضيعة أو البلدة التي كانوا يستخرجونها من أُتون العدم. أما أفراد جماعة البيتنكس،فسيأخذون الطريق عبر القارة الأمريكية ؛ هذه الطريق التي طرفُها الشرقي،كما يعرف الجميع،يوجد بالشمال الغربي للقارة الإفريقية، بمواجهة جبل طارق ،بالمدينة المخضبة بالبياض والتي تسمى طنجة…إذ سيأخذ التمرد لديهم شكلَ تيهٍ جغرافي،وأيضا شكلَ ثورة تركيبية / نحوية ،وأخلاقية، وروحية، وجنسية .
يمكن أن نُعرّف جيل البيتنكس بأنه كوكبة التمرد.فشبابُها الأبدي يجذب على طريقة جيمس دِين. فما طالب به جاك كيرواك من أجل النثر الحديث في كتابه ( شقراء حقيقية وأُخريات) يتجاوزالسجل الأدبي الواحد. إن بحثَه المحموم عن القانون الكبيرلحركة الإيقاع،بتوافق مع قوانين اللذة، يتناسب وظمأ لا يرتوي لِروائية وجودية. إن مبدأه الرابع ( كُنْ عاشقا لِحياتِك ) يدعوإلى الحرية والتمرد، وإلى انتِهاك القواعد والمُواضَعات. فهل هي محض صدفة إذا كان عدد كبيرمن أفراد سديم البيتنكس قد وقعوا في نزاع مع العدالة الأمريكية ؟
كل شيء بدأ بالتعارف بين بعض الأشخاص غير الخاضعين للتقاليد السائدة عام 1944 قرب تايم سكوير بنيويورك،حيث نجد كلا من الشاعروالمدمن على المخدرات هربرت هانك،وليام بوروفز، وشاعر في السابعة عشر من عمره سيغدو بمثابة المُحفزللحركة، هو ألن غينسبيرغ؛ ثم لاعب كرة جامعي سيتوقف مساره الرياضي بسبب كَسْرخطير،هو جاك كيرواك.فصخب عيشهم كان رَجْع صدى لتلك الحياة التي ميزت سان جيرمان دي بريه لدى مجموعة من الكتاب الفرنسيين،الذين نجد من بينهم جان بول سارتر، وريس فيان، جان جينيه،جوليان غراك…
وعلى هامش هذه الكوكبة من الكتّاب- الجوالين،من الساحل الشرقي صوب الساحل الغربي، نجد أحد المنعزلين، هو شاعرمارَسَ مِهَناً رديئة،ويعتني فقط بالطبقة غيرالمثقفة،والذي لايتناول في كتاباته إلا الوقائع الملموسة،يقول:( هذه التفاهات لِمتشردي قرية غرينتش وباريس لاتهمني.طنجة ،الجزائر..كل هذا كلام رومانتيكي مُنَمّق).هذاالمتمرد هو شارل بوكوفسكي،الذي حادت به الحياة القاسية في المجازر، والمصانع،والبريد، ومحطات البنزين،عن الزخارف الأدبية. وكان يوبخ غينسبيرغ وكورسو باعتبارهما كانا يجريان وراء التزلف، بينما هو يُحوّل كل شيء إلى سخرية مضحكة وبشعة. إنه يجسد المنطقة المعتمة للحركة، بعيدا عن الروحية الوجودية لِكيرواك.
” رأيتُ أفضل العقول في جيلي وقد دَمّرها الجنون، يَتضوّرون عُراة مُهَسترين، يُجرجِرون أنفسَهم عبر شوارع زنجية في الفجر باحثين عن إبرة خَدَرساخطة ،هبائيون برؤوس ملائكية، يتحرقون للوِصال السماوي العتيق، الدينَموالنجومي في مَكننة الليل…” كتب ألن غينسبيرغ في أحد نصوصه الملحمية ( عواء-1956).
وهذا الجيل من الفنانين يندرج ضمن حركة تحررعامة(…) ومن الأجدى أن نسجل بأن جاك كيرواك في نص معنون ب(حول أصول جيل) نُشر في مجلة بلاي بوي في حزيران/ يونيو1959، يُوضح فيه بأنه لايجب أن نفهم كلمة “بِيتْ” بمعنى مهزوم، بل بمعنى إيجابي لِشخص يتحدث لِصالح الأشياء:( أنا أُسَمَّى”بِيتْ”،هذا يعني أنني أومِن بغبطة بالغة ، وأن الله قد ضحى بابنه الوحيد في سبيل حبه الكبير للعالم).والتمرد ينفتح كذلك على العالم الروحي سواء كان بوذيا أو مسيحيا .
إن جون كليلون هولمس قال عن هذه المَجرة المُهَلوِسَة في مقالة جد متميزة نُشرت في عدد من مجلة نيويورك تايمز في 16تشرين الثاني/ نونبر1952؛ هذه المقالة الشهيرة تنتهي هكذا:( يُعتبر شخص ما “بِيتْنِك”،حينما يُعلن إفلاسَه، فيُراهن بكل ما تبقى له على رقم واحد .وهذا هو ما لمْ يتوقف الجيل الشاب عن فعلِه منذ صباه ).
وإذا كان البيتنيكيون عائدون في نهاية هذا القرن،فهل يجب أن نُعلِن بصوت مرتفع وقوي أن القرن الحادي والعشرين سيكون بيتنيكيا أو لايكون ؟ هناك إغراء كبيرفي الإعتراف بتأثيرهم القوي في بعض تقليعات الموضة، والتطورات الإجتماعية منذ عقود،لِنذكُر: بوب ديلان، البيتلز،حركة أيار/ ماي 68، هلوسة الأعماق، مهرجان وُودْ سْتُوكْ، موجة البَّانْك، انتشارالبوذية، كُورْتْ كُوبِينْ، طريق كاتماندو، وخيالاتٍ أخرى مُحَرِّرَة …
إنه لَمِن المناسب اليوم أن نُعيد نسج لوحة التشعبات البشرية التي شكلت مَجرة ( المتسكعين السماويين) مُعَززة بالصور. حيث نجد على صفحات ألبوم العائلة صُوَرالكائنات التي لامفر منها: كيرواك، غينسبيرغ، نِيل كاسادي، غريغوري كورسو…دون نسيان السيدات، بدءاً من كارولين كاسادي التي تعتبر بمثابة لو أندرياس سالومي بِجيل البِيتْنِكس ؛وهي زوجة نِيلْ كاسادي الذي كان يَلتَهِم الذوات والأميال على متن سيارته عبرالقارة الأمريكية ، بالإضافة إلى كونها عشيقة جاك كيرواك. فالبيتنيكيون لم ينتظروا أحداث أيار/ ماي 68 لِيَتَبنّوْا المبدأ المقدس(السِّلم والحب). فتحتَ جسورمانهاتن وإيطاليا الصغرى، إلى سان فرانسيسكوكان يمتد شاطىء جيل البيتنكس…
هناك وجوه نسائية أخرى أنجزتْ دوراً متفوقا داخل حركة البيتنكس، مثل: جويس جونسون، إيدي باركر، جوان فولمر…فَريحُ الرفض التي هَبّتْ الآن سَمَتْ بِالبُعْد الأدبي الوحيد، إنها مدرسة للحياة، نَشيد للحرية، فَضْح وتعرية أمريكا الطهرانية والنكوصية. دَعوة إلى التمرد. وهذا ما أوْجزَه فرانسوا دوفال في هذه العبارة :” لَدى جيل البيتنكس الأدب والحياة ليسا أبدا مُنفَصِليْن؛ إنهم يوجدون على الطريق، وليسوا أبدا سَجينِي غرفة، فترة طويلة ، على طريقة فرجينيا وولف “.
حنق العيش بالنسبة لهؤلاء الرحالين المُدمنين يتجسد في أسلوب فنهم للعيش.فَلِكَيْ يصل إلى سان فرانسيسكو قادما من تيكساس، بعد أنْ حملتْهُ في سيارتِها” امرأة شقراء صَميمة” (شقراء حقيقية وأخريات)،اقترَحَ المؤلف على سائقته الحسناء علبة بنزدرين..؛ فالبحث عن المفرط،عن الخارق وغيرالمألوف،عن الفوق طبيعي،عن السريع،عن الشاعري، يمرأيضا عبرالمُنَشِّطات، شيء صالح للتحليق في السماء السابعة. وبينما كانت كارولين تُلهِب النظام الشمسي لكل من نِيل وكيرواك، وبينما كان كيرواك يكتشف بفضل رسائل نِيل، تلقائية الكتابة التي سيتّبعُها في إبداع روايته (على الطريق)،كان هناك كاتب آخرلا يصيح إلا بما هو مُختصَر ولا رومانسي.
شارل بوكوفسكي: طفل ملعون، و بَط أعرج بِجيل البيتنكس،والذي سيعرف النجاح متأخرا.ففي سنة 1967 صَبَّ سيْلاً من اللعنات بِحَوْلِيَتِه بِمجلة أوبّْنْ سِيتي.فكل تمرده كان ينصبّ على السلطة والمجتمع الأمريكيين.لقد حاز الشهرة بِنشره لِكتبه: (انتِعاضات)،(استمناءات)،(عروض وحكايات عامة حول جنون عادي).. وهوالذي قال: ” الحب يتخذ شكل حادثة “.
وفي المُحادثة الشيقة التي خَصَّ بها جان فرانسوا دوفال،يذكر: (أية شُلة من المُتَنفّجين..لم يكن هناك سوى أشخاص جالسين على شكل دائرة ويتحدثون عن كتبهم).إنه تَعَرُّفٌ سَيء على الطفل الرهيب لِجيل البيتنكس.ألاَ يكره الكُتّاب الذين لايتحدثون إلا عن الكتابة، بَدَل الحديث عماهوواقعي؟ وأضاف(إنني أفضل الحديث مع مُصَلح أنابيب).فهل ينبغي تَخطيئه؟
(…) وخلافا لِنبوءة غينسبيرغ التي مَفادُها أن نجم بوكوفسكي لن يتأخرعن الشحوب ، لم يزد صيت هذا الكاتب الجليل إلا تَعاظما.
(…)وأخيرا فالمُصوَّرالجغرافي(أطلس)لهذه الحركة يلزمُه أن يكون مرفوقا بِقراءة لِلأعمال التي أنتجَتْها،وزيارة أماكن التيه بالقارة الأمريكية،دون فصل ذلك عن الإيضاحات التي صنعَها أفراد جيل البيتنكس.
_ عن ماغزين ليترير(المجلة الأدبية الفرنسية) بتصرف.
عدد 365 / ماي 1998_
إشارة :**
لقد احتفظنا بالترجمة العربية التي أنجزها سركون بولص للمُجتزأ الشعري الوارد في هذه المقالة،من قصيدة ” عُواء” لألَن غينسبيرغ،والمنشورة بِأحد أعداد مجلة ” الكرمل “.
_________________________
شاعر ومترجم من المغرب* 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *