هذه المكتبة صديقتي..هذا الرجل أخي


زياد خداش *

لا يبدأ صباحي إلا أمامها، لا يكون لي نهار دون أن أدخلها، مكتبة الجعبة وسط رام الله، صاحبها يوسف الجعبة (أبوخالد) خمسيني مثقف بصمت، أحد قياديي الانتفاضة الأولى، في المكتبة أجد كل ما أشتهي: أسبوعية أخبار الأدب، مجلة أدب ونقد نصف الشهرية، إصدارات دار الهلال، والهيئة العامة للكتاب، ومجلة دبي الثقافية، وكتب وروايات ودواوين شعر، وصحف فلسطينية وعربية، ودوريات أخرى تأتي تباعاً، يحدث أحياناً (وهذا نادر جداً) أن أتأخر عن العمل، فأذهب من طريق آخر أقرب إلى مكان العمل، متجاوزاً المكتبة، فأشعر في عملي بأنني على غير ما يرام، وبأن هناك خطباً ما، فأتصل بـ(أبي خالد) وأبلغه اعتذاري، لأني لم أزره هذا اليوم، فيضحك (أبوخالد)، ويجيبني بأنه كان على وشك الاتصال بي ليطمئن عليّ، هذه العلاقة الغريبة بيني وبين المكتبة لم أفهمها حتى الآن، منذ أكثر من ‬20 عاماً وأنا واقع في غرامها، صارت بيتي الثاني، أستطيع أن أتحرك فيها وأتبادل الدعابات والنقاش الأدبي مع أخوة (أبي خالد) مروان وتيسير (مساعدا أبي خالد في المكتبة). المكتبة هي مجرد ممر بحائطين مكدسين بالكتب والدوريات، مع (سدة) مملوءة بمخلّفات الصحف والمجلات يصعد إليها بدرج حديدي كهربائي، أكاد أحياناً أطلب من (أبي خالد) أن يجعلني أنام في المكتبة، هي أمنية لي لم أذكرها لأحد بعد وهأنذا أكتبها، ما أحتاجه هو الفرشة وحراماً ثقيلا، وصمت مدينة وشمعتين، سأستمتع بظلال الكتب ورائحتها، سأتوهم أن للكتب صوتاً أيضاً وذاكرة ومطالب وأحزاناً.

قبل أكثر من ‬60 عاماً تقريباً أقيمت المكتبة، أجيال كثيرة مرّت من هنا، وقرأت في صحفها أخبار حروبنا وأدبنا وهزائمنا وأشواقنا وبطولاتنا، جيل جدي وقف أمامها لينتشي بانتصار عبدالناصر على العدوان الثلاثي، جيل أبي وقف وهو يبكي مع أصحابه لاستقالة عبدالناصر، ونكسة حزيران، جيل الانتفاضة الأولى، جيلي، اختبأ فيها من جنود الظلمة، هناك تحديداً في «السدة»، مازلت أتذكر رائحة الصحف القديمة والكتب، مع أصحابي، نطل على الجنود وهم يفتشون عنا بتوتر وحيرة، بعد أن رشقناهم بالحجارة والغضب. (أبوخالد) يعرفني أكثر مني: أنت اليوم حائر. يقول لي وأنا أقف أمامه في السادسة صباحاً كل يوم، فأستغرب كيف يقرأ أعماقي، «أنت صفحة بيضاء بالنسبة لي، ووجهك يتواطأ معي لكشف مكنونك»، أنت اليوم غاضب، أنت اليوم حزين، أنت اليوم طائر من الفرح، ويصدق (أبوخالد) في كل توقعاته، وأستغرب أنا، وأضطرب أمامه، فيطمئنني بجملة صاعقة: أنت طيب وعفوي، يكفيك هذا. يناقشني (أبوخالد) بالتفصيل في كل ما أكتب، ويبدي صراحة قاسية تجاه «دلعي اللغوي»، ويتحمّس لي حين «التزم» بهموم البلاد والناس.

هذه المكتبة صديقتي، وهذا الرجل أخي، الذي حماني من الجنود ومن الجدب الروحي.

– صباح الخير (أبوخالد).

– «صباح النور بس ليش تعبان اليوم؟».



* كاتب من فلسطين


( الامارات اليوم )

شاهد أيضاً

رِسَالةُ ودٍّ إلى شَاعِرٍ صَديقٍ وَدُود

(ثقافات)   رِسَالةُ ودٍّ إلى شَاعِرٍ صَديقٍ وَدُود د. محمّد محمّد الخطّابي *   أيها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *