بشرى أبو شرار: الرواية والذات الفلسطينية


حوار: عذاب الركابي

الروائية بشرى أبوشرار.. هي الرواي الصادقُ والبطلةُ بامتيازٍ لكلّ هذا الكمّ من القصّص والروايات،حين قرأتُ روايتها أعواد ثقاب منذُ سنوات، وشمّمتُ بظمأٍ وردة أسرارها، وأغرقني سيلُ أُمنياتها وأحلامها، وأصغيتُ لأوركسترا انتمائها، أدركتُ أنّها ستعقدُ حلفاً مع الكلمات، شاهدهُ وطنٌ لنْ يغيبَ عن سريرِ ذاكرتها المخمليّ، يتجدّدُ بفسفورِ كلّ حرفٍ، ويتسّعُ عندَ كلِّ آهةِ إلهامٍ، ويصبحُ بحجمِ العالمِ، حينَ تكتملُ الروايةُ بحبرِ نزيفِ قلبٍ لايتوقف، وفتافيتِ جسدٍ، كلّ رعشةٍ فيه هي مشروعُ قصّةٍ جديدة أو روايةٍ تحكي سيرة الفلسطسني ..

مواطنها، سيرة الأرض والزيتون والبرتقال والطفولة المصادرة، والأحلام والأفراح المؤجّلة، تحكي نبض كلّ شارعٍ في غزة وجنين ورام الله، وترسمُ لوحةً لأضوائه الكرستالية وهي تأبى الانطفاء، وفي كلّ خيط ذهبي من خيوطها تلعن الوقت المهادن والمحتل الظالم ..
بشرى أبوشرار أردتُ أنْ أُحاورها، فوجدتُ نفسي قدْ انتميت لها فكراً .. وحُلما ً .. وهمّاً، أشبهها في الكثير من ملامح أحلامها، وألتقي معها على ضفاف الكلمات، ونحن نقيمُ عالماً مخملياً لانطالهُ في زمنٍ غادرٍ خؤون ..وأنا أتعرّف على بطلتها الرائعة فدرة التي هي بشرى في طفولتها، وأسرارها، وأحلامها، وروحها الشجاعة التي تراهنُ أبداً على ضحكةِ الأرض، وصبر أهلها الطيبين. بشرى أبو شرار تكتبها الكلماتُ، وتحكي سيرتها، وجميل أحلامها الروايات، هي مبدعةٌ لاتتسلى، بل تتشظّى ذاتها وهي ترسم لوحاتٍ باهرةً للحقّ والعدل والحرية والكرامة.. مَنْ يُردْ أنْ يعرف شيئاً عن ذهبِ قريحتها، فليصغِ لها في هذا الحديث الدافيء، ومَنْ يردِ المزيد، فأدله على رواياتها أعواد ثقاب و قمر في الظهيرة و شهب من وادي رم .
أنتصر بالحرف والكلمة 
الكتابة مُغامرة .. معركة مُضنية شريفة مع كلّ مايدورُ حولنا .. نعيشُ طعم النّصر حتّى في الهزيمة .. قولي لي ما أسلحتكِ الأشدّ فتكا ً في هذهِ المعركة؟
– أتمنى أن أقبض على أسلحة هي الأشد فتكا ً…. وأسلحة المبدع هي حروف تقاتل من قلب الكلمات، وكم تتسع ساحات المعارك في عقل وقلب كل مبدع حقيقي، معارك تتوقد في روحه المأزومة الباحثة عن الحقيقة، والحقيقة نور قد لا يرغب الكثيرون أن يفترش مساحاتهم المعتمة، أنتصر بالحرف والكلمة، أنتصر على أوراقي البيضاء، قد أتماهى مع أوجاع تشبه أوجاعي، فيتحقق النصر في محيط الهزيمة، الأسلحة الأشد فتكا هي عزيمة لا تلين، أن لا نسقط في هوة الصمت، أن تظل الفكرة بهية طازجة لا تشيخ، بل تكبر بمولد كل فجر جديد .
ــ ولماذا القصّة القصيرة والرواية من دون غيرها من فنون الكتابة المتعدّدة؟
ــ القصة القصيرة جذبتني لعالم الرواية، من وهج القصة القصيرة دخلت لعالم نوراني يتوهج في قلبي لأبدأ رحلة جبلية صعبة في عالم الرواية، هكذا وجدت ذاتي المجبولة بالألم تلتحف القصة والرواية لأرمم ما تكسر مني، أنتج تجربتي، تحيا على أوراقي البيضاء، أدغدغ ذاكرتي ولا تخونني، هكذا جذبتني الرواية من عتبات القصة القصيرة .
الرواية فسيفساء على جداريةِ الروح 
ــ صارَ الحديث عن فنّ الرواية في كافة الأوساط الثقافية العربية مُتشعبا ً ومغريا ً .. البعضُ يراها تكتسحُ كلّ شيء، والبعض الآخر يسيلُ لعابه على لقبِ ــ الروائي .. كيفَ تعللينَ ذلكَ؟ أهو زمنُ الرواية فعلا ً؟ ألا ترين أنّ البعض يستسهل كتابة هذا الفنّ العظيم؟ حدثيني 
ــ الرواية تكتبني، الرواية سحر غامض يأتيني من عالم الغيب، هي عظامي التي أكسوها باللحم من دمي وروحي فلا ألتفت أو أتكالب على مسميات، فالرواية تفوق كل هذا، أما البعض من أشباه الروائيين يجد في هذا اللفظ معنى يضيف له، ولكن الحقيقة أن للرواية عوالم لا يدركها إلا كل مبدع حقيقي، مقولة زمن الرواية مقولة عبثية، يوم خلق الإنسان على الأرض يوم ولدت الرواية من قلب الحكاية،الرواية ممتدة عبر كل الأزمنة، قد يستسهل البعض كتابة هذا الفن العظيم، ولكن لا تخرج الرواية في منظومة الأعمال الخالدة التي تصير نجوما في حياة الإنسانية، الرواية تكتبنا، الرواية حياة تضج بالوجع، العطاء .. القيم .. المحبة .. عبثية الحياة .. فسيفساء على جدارية الروح لحياة من كانوا .. تترك بصمات من الصعب نسيانها .؟
ــ أنا أعتقدُ أنّ مصطلحات المدارس والأجيال والأزمان قدْ انتهى، لأنّ الإبداع هو زمنُ اللازمن .. وفنون الكتابة تتداخل، ويكمّلُ بعضها بعضا ً، ومن الصعب أنْ يتنازلَ فنّ من الفنون عن كرسيّه الوثير .. ماذا تعتقدين وأنت القاصة والروائية التي تفضّض جبين زمنها وعصرها بجميل الكلمات الهادفة .. المؤثرة التي تدق أجراس الخطر عبر أعمال روائية لها صخبها الضروريّ؟؟
ــ الإبداع هو زمن اللازمن، هو رصد لمرحلة ما في زمن ما، هو وجه الحقيقة التي يهرب الكثيرون من تجلياتها، وإن حدث وتداخلت الفنون وولد منهج التجديد في الرواية، يظل للرواية ألقها وسحرها وخلودها مهما حدث من متغيرات في ابتكارات المبدعين، ظلت الرواية ملكة على عرشها، رغم محاولات دمجها وتغير بنيتها الفنية وتنامي عبارات جدلية في توصيف الجنس الأدبي الجديد، هل هذا العمل رواية أم يقع تحت مسميات مبتكرة؟ وتجد ترحيب في أوساط المجددين إلى أن يواجهوا حقيقة لا تقبل التغير، أن الرواية فن خالد من الصعب العبث بجدارنه …..
ــ يقولُ أنطونيو تابوكي إنّ العدلَ والمساواة يمكنهما أنْ يشاركا في هندسة العالم ..كيف ترين عالما ً من دون عدل ونور؟ هل تكفي القصائد والقصص والروايات لهزيمة الظلمة واللاعدل؟ أهي أداة مقاومة ودفاع عن النفس أم أنها لحظة مخملية وانتصار على بلادة ورتابة الواقع المعيش؟؟
ــ عالم من دون عدل، عالم لا ينتمي لإنسانيتنا التي من أجلها خلقنا، عالم من دون عدل أراده آخرون لنا، رغما عنا، لنغرق في ظلمات الجهالة والاقتتال، وتتبعثر كياناتنا، عالم من دون عدل، عالم الظلم والكره ملون بالأحمر وأرضه خراب، تموت الحياة …. ويفنى الإنسان في أرض التيه الممتدة في بحور الظلم والظلام ..
حينَ أكتبُ أستعيدُ ذاتي المتشظية
ــ هذا جويس كارول يقولُ أشعرُ بالخوف دائما، ولكنني عندما أكتب أعيش حالة من الاهتياج والإثارة .. قولي لي ماذا تشعرين لحظة التوهج والكتابة؟ أي إحساس جهنمي هذا الذي يعيشهُ الكاتب؟في البدء كانت الكلمة، والكلمة منارة الروح ووقودها الوجداني، الكلمة التي تكتب من ينابيع الصدق، وتجدل من عبثية الحالة التي نكابدها، تزيح العتمة تهزم الظلمات، تهز عروش الطغاة، وكم من الصراعات استهدفت الساحة الثقافية والمثقفين، كم من الصراعات عبر التاريخ بدأ معركته بحرق المكتبات وسرقة التاريخ وتزويره من خلال البرديات والنقوشات الحجرية، وكم من الحضارات قامت ونمت وازدهرت حين بدأ السباق على نقل المخطوطات وترجمتها كما حدث في وهج الحضارة الإسلامية، هنا نستشرف وبيقين قوة الكلمة المكتوبة التي ترصد زمنا ً ما في مسيرة حياة الشعوب ….
جويس يصف حالة حين يكتب بالإهتياج والإثارة، وأنا حين أكتب أستعيد ذاتي المتشظية، أرمم فيها أوجاعا لن تصل إليها يد أمهر الجراحين، بالكتابة أستعيد ذاتي وأصير على الورق حياة .. قد لا يوفق الكثير من الكتاب في وصف الحالة حين يكتبون، ولكن في روحي تسكن أدراج أوصدتها، أفتح منها الواحد تلو الآخر لأصير كيانا مغايرا، كيانا ً كونيا ً فريدا ً أراه على أوراقي البيضاء كتابا ينداح لأيقونة في روح كل متلق ٍ، فيلون مساحاتنا البيضاء بألوان قزح ….من الكتابة إستعدت مدني الضائعة قبل أن تتلاشى على أرض واقع يلفه الغموض، إستعدت شخوصا غيبها الرحيل، فصارت دما ولحما يموج بالحركة وعمق الحدث في صفحات تركن للسكون على رفوف مكتبتي، حين أسترسل في وصف حالة الكتابة قد لا أنتهي من أحاسيس تتجدد في وجداني مع كل عمل،له روح تعصف بكياني حتى يتشكل خلق جديد .
المستعمرُ زائل لأننا الحق والضمير
ــ وحين ترينَ مايجري في غزة وجنين وغيرهما من المدن الفلسطينية الظامئة للأمان من ممارسات العدو الصهيوني .. غطرسة .. وعدوان .. واحتلال ظالم مُؤيَّد من قبل غرب منحاز بشكل فاضح .. وصمت عربي مُخجل 
ماذا تقولين وأنت المبدعة الفلسطينية التي تغذى فسفور حروفها من عذابات وأنين وأحلام أطفال تلك المدن؟ وماذا تقترحين لتغيير العيون التي ترى الواقع على حد تعبير ــ كازنتزاكي؟؟
ــ مع شروق كل نهر جديد تطالعني غزة بسواقي رمالها، ورغاوي موجها، ووشوشات صدفاتها، مدينتي تلال رملية ملقاة على كتف البحر، وجنين وهي نائمة في حضن جبالنا، ونجوم تلامس جباه الشموخ فيها، تراب …. تراب ….. وطن وشعب …. من هنا يتلاشى الكيان الصهيوني من عقلي وكل كياني، منظومة الجمال في عشق وطن لا أرى فيها هذا الكيان الغاصب، لأن موطني هو ثلاثية الجمال في قلبي، ولن يشوه معالمه هذا الغاصب المحتل المتلاشي في ذاكرة أمتي المظلومة .. 
القضية اتسعت عن جغرافية فلسطيننا، الحالة تشظت لتشمل كل وطننا العربي، النور في عيني ينداح لكل بقعة في وطننا العربي الذي تغتال أحلامه، وتنهب مقدراته، وفحيح الأفاعي يتردد في فضاء مدننا،وصارت كل شعوب العرب على آلية التشرد في أرض التيه، نحمل أجسادا ً نازفة وآلاما ً غائرة، وصار ألمي آلاما على طريق الشوك الذي لا ينتهي، ولتغير العيون لواقع مغاير أن يقيننا يزداد قوة، الحق هو الشمس التي من الصعب أن نميت شروقها، فلسطين لنا، وأرضنا العربية لنا، المستعمر زائل …. زائل …. لأننا الحق..لأننا الضمير.. قوة لن يخبو نورها .
الكتابة أعطتني روحاً متقدة 
بنور الفكرة
ــ بشرى أبو شرار القاصّة والروائية وكم مثير .. بهيج من المجاميع القصّصية أنين المأسورين، جبل النار، اقتلاع، حبّات البرتقال ومن الأعمال الروائية ابتداءً من أعواد الثقاب 2003 ومروراً بــ من هنا وهناك 2006 وحتى حنين و قمر الظهيرة 2010 إنه زمن كتابة ونزيف عسير .. ماذا أخذت الكتابة منك؟ وماذا أعطتك؟
ــ الكتابة لم تأخذ مني، الكتابة أعطتني روحا ً متقدة بنور الفكرة وآلام التجربة، وإن أخذت مني وقتا وجهدا ومثابرة فهذه حياتي المحببة إلى نفسي، أنا في صراع مع الوقت،لأقدم وأنهل من معين من سبقوني، فهذا هو زادي في حياة قصيرة نعيشها،أقرأ لتسمو الروح في جسدي وأكتب لتشفيني الكلمة حين أطلقها على الورق، أطيرها في وجه الريح، فتشرق روحي من جديد.
الجائزة تشعرني بالخجل
ــ حصلت على جوائز إبداعية قيمة عديدة، في مقدمتها جائزة إحسان عبد القدوس في القصة القصيرة، وجائزة الجمهورية عن روايتك ــ شمس .. هل الجائزة مثابرة وحافز دائم أم مسؤولية أكبر؟ أم أنها قلق آخر يُضاف إلى قلق الكاتب المزمن .. والمبدع الحقيقيّ .. ماذا ترين؟
ــ لم يقترب مني القلق يوما، يسكنني القلق من أزمة الحكاية، وحين تختارني الجائزة أشعر بالخجل ويساورني شعور بأني لا أستحقها، ولكن ما يحزن قلبي أن هذا الزمن لا يلتفت للكاتب إلا حين يحصد الجائزة تلو الأخرى، لذا أتمنى أن تقترب مني الجوائز لتتناثر كتبي في أصقاع المدن، المبدع الحقيقي لا يحتاج لوقود يحركه كجائزة .. الإبداع هو موهبة تسكن الكاتب لا يستطيع التملص منها إلا برحيله عن الحياة.
صدرتْ روايتك شهب من وادي رم ــ طبعة ثانية عن روايات الهلال، كيف تفتحين شهية القاريء لها؟ هل يمكن أن يغازل المبدعُ عمله في لحظة انتشاء؟ وماذا ينضجُ تحت نيران أصابعك من أعمال للأيام القادمة؟
ــ رواية شهب من وادي رم هي الرواية التي تداخلت فيها الأزمنة من روح الأسطورة، كتبتها وشفيت من آلام غائرة كادت أن تستوطن كياني، قد أفشل في مغازلة عملي، ولكن كل أعمالي هم أبناء لي، وكل عمل أنحاز إليه، لأن كل منهم جسّد الحالة المأزومة التي عشتها، وحين أنتهي من كل عمل روائي تصيبني حالة حزن لأني أفارق أبطالا ً عشت معهم على مدار عام أو أعوام .. هكذا هو حال الكاتب يا سيدي.
أما عن حالة توهج أخرى، قد أنتهي من روايتي العربة الرمادية والتي أعيشها الآن كما الظل يفترش مساحاتي، ثم يعود يلملم ظله من جديد حين يتوهج قرص الشمس.
_____________
* شاعر وأديب من العراق يقيم في ليبيا 
(الزمان الدولية )

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *