هي الأمكنة


خليل قنديل *
في إحدى القصص المترجمة التي قرأتها في زمن قرائي مبكر، نرى الرجل يتحرك بخفة وحرص عجيبين وهو يبدأ بجسّ منطقة شجرية متشابكة في إحدى الغابات، وبينما الرجل يتوغل أولاً بأول في الدغل الشجري، يشعرنا كاتب القصة بأن هذا الرجل يدوس بآدميته منطقة بكراً على سطح كوكبنا الأرضي، فضلاً عن إحساسنا بأن هذا المكان فقد عذريته حينما داسه الإنسان بقدميه وبذراعيه وهو يشق الطريق بين أشجاره المتشابكة. واللافت أن القاص يقول في نهاية القصة «يا إلهي لقد تأنسن المكان!».

هي الأمكنة إذن التي نستدعيها بقامتها الحجرية وبيباسها الأسمنتي لتحط في أرواحنا، كي تمتلك خفتها الخاصة، القابلة للحنين وللعناق وللهجر وللتذكر أيضاً!

هي الأمكنة التي قامت باستدراجنا وإنهاضنا من الحبو في ساحة الدار وقادتنا بأرجلنا الطفولية المرتعشة نحو بوابة البيت كي نُشرعها، وكي نطل على امتداد الشارع الترابي الأُمي الذي يتدفق بحلزونيته بين البيوت ممتداً بأشجاره المصطفة على كتفيه كرتب عسكرية خضراء لضابط صارم!

هي الأمكنة التي قادتنا لمعرفة دار الجارة، والتمعن في تضاريس جسدها، وتكويراته الشهية، وهي الأمكنة التي كانت تقودنا إلى الفصل المدرسي وبكل الروائح الصفية المختلطة بطعم الخشب وعرق المقاعد المدرسية، وتلك النافذة التي كانت ترينا جارة المدرسة وهي تنشر غسيل ثياب إثم البارحة تاركة إبطها ينظر إلينا بمرح استفزازي!

هي الأماكن ذاتها التي راودتنا عن نفسها في كل المراحل العمرية واقتادتنا أمامها بقسوة التذكر وإلحاحات إنهاض الطللية في أرواحنا، ومرافقتنا في كل مفاصل حياتنا كنداهة تظل تصيح وتجأر لتزلزل أرواحنا بحمى التذكر.

هي الأمكنة التي اندغمنا فيها، واندغمت فينا، وصار لها ملامحها الإنسانية النزقة، وجبروت قسوتها وهي تعي أنها بدأت تنغرس فينا. هي الأماكن التي تبدأ بعد مواظبتنا على الحضور في مساحتها بتململ والتقزز منّا بهدف إحداث القطيعة.

حدث هذا مع الشارع الذي واظبنا على تقديم أوراق اعتمادنا الشبابية في جنباته، لكنه فجأة بدأ بالتململ وإبراز الضجر الواضح في اسفلته وفي رصيفه، وقد بدأ هذا يظهر على شكل تقزز من قاماتنا، وكان علينا أن نهجره على الأقل كي نحافظ على ألقه الأول في الذاكرة.

وحدث هذا مع المقهى الذي كنّا نواظب، بشكل جماعي، على الحضور إليه كل أسبوع، حيث بدأ المكان يفقد بريقه ويرينا بقع الرطوبة المنتشرة على جدرانه، كي يؤكد لنا أن الأمكنة حينما تؤنسن الى هذا الحد فإنها تتأنسن، وتبدأ بالتعرق واللهاث الأسمنتي لتضعنا في حالة شبيهة تجعلنا نبدأ بالتقزز منها والإقدام على هجرها!

هي الأمكنة التي تستدرجنا وتحنو علينا، وحينما تتأنسن تمتلك خاصية القهر الإنساني وقسوة الإهمال والتجاوز. هي الأمكنة سر كل هذا الشقاء وسر ارتباكنا الكوني، وسر هذه الحمى التي تولد كل هذا القهر في أعماقنا. هي الأمكنة سر هرمنا المُزمن وسر كل هذا الخراب!
___________
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *