ناغيزا أوشيما.. المختلف الحقيقي



أحمد علي البحير



أثار رحيل المخرج الياباني المتمرد ناغيزا أوشيما (1932 – 2013) مؤخرا، موجة عارمة من الحزن في شتى الأوساط الثقافية والسينمائية في العالم، ليس لأنه مخرج يمثل (حالة خاصة) في السينما اليابانية، ولكونه مختلفا في أسلوبه، وإختراقه لكافة المحظورات في أكثر من عمل سينمائي. 

كان يسير عكس التيار، متجاوزاً كل ما هو تقليدي مستهلك في عالم التعبير البصري، وبخاصة في رائعته المسماة «إمبراطورية الحواس» عام 1976، والتي أدهش ولفت من خلالها أنظار النقاد، حينما عرضت في منافسات مهرجان كان السينمائي بذات العام. 

في هذا الفيلم الجميل والمؤثر في آن والذي أثار ضجة هائلة بعد عرضه العالمي، يمكن تلخيص رؤية أوشيما للحياة، من خلال بطلة «كيشيزو»، الذي يمضي جلّ وقته يجول الشوارع منتظرا صديقته «سادا»، حتى تظهر له فجأة مجموعة من عناصر الجيش الامبراطوري الياباني، لكنه وبجرأة عالية يسير عكس اتجاهها، بلا أية مبالاة أو اهتمام، ولا يمكن شرح فلسفة هذا العمل بأكثر من ذلك، الرفض المطلق للهيمنة والحرية الشخصية بكل أشكالها، ثم طرح الواقع السياسي في إطار اجتماعي يتكئ على الواقع. 


وبذلك يكون أوشيما أول مخرج ياباني، خرج في تلك الحقبة وما تلاها، من تحت عباءة السينما السائدة التي تنتج وتصوّر وفق أهواء ورغبات الشركات والمؤسسات التي تحكم صناعة الفيلم الياباني برؤية خاصة، هي بلا تزييف كما كان يحب أن يقول، رؤية ثقافة السلطة.

المتمرد

نهتم برحيل أوشيما لأسباب كثيرة، فهو كإنسان عادي كان طوال حياته متمرداً، خارج منظومة «ثقافة السلطة»، فالسير عكس التيار، هو ما فعله طوال حياته، منذ أن كان طالبا للحقوق في جامعة كيوتو، كقيادي طلابي يساري، مستمرا في هذا النّهج في جملة أعماله التي عكست مشاغل بلده السياسية والاجتماعية بقسوة وغضب وتشاؤم أحيانا، من خلال اشتغالات اهتمت بالتحولات الكبيرة التي شهدها المجتمع الياباني بعد الحرب على وجه الخصوص، فقد صوّر الرجل كسمكة سلمون كبيرة، متمردة تعشق السباحة عكس التيار، حتى أن ضيقه من الرقابة، والعمل في ظل تحديات كثيرة وكبيرة تواجهها السينما اليابانية، دفعه في الستينيات إلى تأسيس استوديو سينمائي خاص به. ومن جملة ذلك أيضا أن شهرته كمخرج تجاوزت حدود بلده، إلى أنحاء العالم، وقد حقق له ذلك قيمة فنية، توازت مع مواطنه المعلم السينمائي الكبير «أكيرا كوراساوا»، وقد صنّفت بعض أعماله ضمن كلاسيكيات السينما العالمية ومنها على سبيل المثال لا الحصر: «حكايات الشباب القاسية»، «ماكس حبيبي» الذي اضطلعت بتمثيله النجمة «شارلوت رامبلينغ»، «ميلاد سعيد مستر لورنس»، وأسند فيه دورا مهماً مليئاً بالأحاسيس والمشاعر الانسانية الدافئة لمغني الرّوك الشهير «ديفيد بوي»، وشاهدنا فيه سجالاً بين ضابطين أحدهما ياباني، والثاني إنجليزي. وربما يكون فيلم «تابو» وهو آخر إنجازاته، واحدا من تلك الأعمال الكلاسيكية الجميلة، وفيه يسرد قصة من التاريخ الياباني القريب إبان حقبة الساموراي. 

تسجل الـ 25 فيلماً التي قدمها عبر حياته الفنية المثيرة للجدل أسلوبيته الإخراجية والتقنية والفكرية، إذ توشّت جميعها بأشكال من الصدمات، وخيبات الفرد في الحياة، في بصرية ممتعة لا تخلو من مشاهد البؤس الإنساني، فقد أثار في معظم هذه الأفلام الكثير من الإعجاب والجدل، كونه واحدا من بين صنّاع السينما، تجرأ على فضح ركائز وثوابت مجتمعه التقليدي المحافظ، وحاكى العديد من خفايا تحولات بيئته إلى خليط يجمع بين نواحي الفجيعة والتهميش والعزلة والاستلاب والتسلط، في إطار ثقافي وفكري واشتغالات تقوم على أسلوبية جمالية ودرامية وفلسفية صادمة، تتجاوز وتختلف عن أفلام سابقيه من أمثال: كوروساوا، ميزوغوشي، ايمامورا ساواو، هيروتشي، آوزو، كينوشيتا، وغيرهم… وقد أكد عبقريته وفكره السياسي لاحقا في العديد من الأفلام، من بينها شريطه الروائي الطويل بعنوان «ليل وضباب في اليابان»، المستوحى من عنوان شريط آلان رينيه، وقد وجّه من خلاله النقد اللاذع لتلك الفترة المضطربة سياسياً، لكن الفيلم تمّ سحبه من دور العرض بعد ثلاثة أيام، ولم يثنه ذلك عن الصبغة التعبيرية المتمردة للتعبير عن مختلف المواضيع الجدلية في المجتمع الياباني، فقدّم لنا عام 1968 فيلماً معقداً عن عقوبة الإعدام بعنوان «شنق»، كما قدّم لنا عالم الجريمة والسياسة والجنس، في فيلم «يوميات لص شينجوكو ـ 1969»، كما نقد مجتمعه ما بعد الحرب والبرجوازية في فيلم جميل وصادم حمل عنوان «الحفل ـ 1971».

المهمشون أبطالاً

لقد بدا اهتمام أوشيما واضحاً من خلال هذه الأفلام بطبيعة الشخصيات البسيطة وما تحمله من إبعاد إنسانية، وتحولات بتأثير القوانين الاجتماعية الميكانيكية التي لا ترحم، فوجدنا اهتماما واضحا بشخصيات قاع المدينة شخصيات حقيرة، من مجرمين ولصوص وبائعات الهوى، وساسة فاسدين ورجال أعمال وتجار وعاملين في الحقل الفكري والانساني، حتى جاء عام 1979، ليخرج لنا رائعته الثانية «إمبراطورية العشق» ونال عنها جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان السينمائي (السعفة الذهبية)، لكنه في الحقيقة لم ينل شهرته الحقيقية إلا من خلال فيلمه الرائع الذي ذكرناه سابقا بعنوان إمبراطورية الحواس، المأخوذ عن قصة واقعية في المجتمع الياباني، شريط فيلمي يرفض كل أشكال ثقافة العنف، من خلال علاقة حب غير شرعية، بين فتاة الغيشا (سادا)، وصاحب النزل (كيشي)، على خلفية سياسية تصور اليابان عام 1939، تفضي إلى تصوير أكثر جمالا للعلاقة بين الحب والعنف، وحيث المسعى المطلق إلى النشوة القصوى، وما يقود حتما إلى الجنون والموت. وبالمناسبة فإن هذا الفيلم الذي كان يسافر بعض اليابانيين إلى الخارج لمشاهدته كاملاً، لم يسمح بعرضه جماهيرياً وبنسخة كاملة إلا مطلع عام 2000، بعد التحولات الكبيرة التي طرأت على ثقافة المجتمع.

إن أفلام ناغيزا أوشيما، زعيم الموجة الجديدة في السينما اليابانية، هي في الواقع ماركة مسجلة، فمنذ أول أفلامه «مدينة حب وأمل» وحتى آخرها، يمكن لك أن تعرفها من إيقاعها، ولغتها السينمائية المشبعة بالتمرد والرفض، لكنها مغلفة بحقيقة الواقع والجانب الانساني المؤثر، تعبيرا عن روحه المتمرده، لإصراره الشديد على الطيران خارج السرب، والسباحة عكس حركة المياة التقليدية، فكان التمرد بالنسبة له هدفاً، وليس مجرد مناكفة، وكانت إسقاطاته السياسية والاجتماعية الحادة عنواناً لمعظم إبداعاته التي كان لها لون وطعم خاص، لهذا ولأشياء كثيرة نتحدث عن سينمائي أفنى أكثر من خمسين عاماً من حياته في خدمة السينما الطليعية الجديدة، مكرساً جهوده لنقل صورة حقيقية للفيلم الياباني الى المهرجانات العالمية، بحيث أصبح منافساً بقوة. 


( الاتحاد الثقافي – الإمارات )

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *