نزار قباني‮.. ‬ورسالة حب صغيرة


* عبدالله السمطي

 ‬1‮- ‬-

هل يمكن للشكل البيتي العمودي أن يتحول إلى قصيدة تفعيلية أو قصيدة نثر؟
بصريا؟ ممكن،‮ ‬وجمالياً ودلالياً أيضا‮ .. ‬لنقرأ هذا النص الشعري القصير‮:‬
نزار قباني‮: ‬رسالة حب صغيرة
حبيبتي‮ :‬
لديَّ‮ ‬شيءٌ‮ ‬كثيرْ
أقولُهُ‮ ‬،
لديَّ‮ ‬شيءٌ‮ ‬كثيرْ
من أينَ‮ ‬يا‮ ‬غاليتي أَبتدي ؟
و كلُّ‮ ‬ما فيكِ‮ ‬أميرٌ‮ .. ‬أميرْ
يا أنتِ‮ ..‬
يا جاعلةً‮ ‬أَحْرُفي
ممّا بها‮ ‬،‮ ‬شَرَانِقاً‮ ‬للحريرْ
هذي أغانيَّ‮ .. ‬و هذا أنا
يَضُمُّنا هذا الكِتابُ‮ ‬الصغيرْ
غداً‮ .. ‬إذا قَلَّبْتِ‮ ‬أوراقَهُ
و اشتاقَ‮ ‬مِصباحٌ‮ ..‬
و‮ ‬غنّى سريرْ
واخْضَوْضَرَتْ‮ ‬من شوقها أحرفٌ
وأوشكتْ‮ ‬فواصلٌ‮ ‬أن تطيرْ
فلا تقولي‮ :‬
يا لهذا الفتى !!‬
أخْبرَ‮ ‬عَنّي المنحنى ‬،‮ ‬و الغديرْ
و اللّوزَ‮ .. ‬و التوليبَ‮ ..‬
حتى أنا‮ ..‬
تسيرُ‮ ‬بِيَ‮ ‬الدنيا‮ .. ‬إذا ما أسيرْ
و قالَ‮ ‬ما قالَ‮ :‬
فلا نجمة إلاّ‮ ‬عليها مِنْ‮ ‬عَبيري عَبيرْ
غداً‮ ‬يراني الناسُ‮ ‬في شِعْرِهِ
فَمَاً‮ ‬نَبيذِيّاً‮ .. ‬و شَعْراً‮ ‬قَصيرْ
دعي حَكايا الناسِ‮ ..‬
لَنْ‮ ‬تُصْبِحِي كبيرَةً‮ .. ‬إلاّ‮ ‬بِحُبِّي الكَبيرْ
ماذا تصيرُ‮ ‬الأرضُ‮ ‬لو لم تكنْ
لو لَمْ‮ ‬تكنْ‮ ‬عَيناكِ‮ ..‬
ماذا تصيرْ‮ ‬؟؟
بهذا الشكل الشعري‮ ‬لقصيدة‮ “‬رسالة حب صغيرة‮” ‬استهل نزار قباني ديوانه قصائد الصادر في العام‮ ‬1956م‮ ( ‬والنص مأخوذ من الطبعة الحادية والثلاثين‮ ‬،‮ ‬بيروت‮ ‬1981م‮) .‬
إن شكل النص بداهة يبدي قدرا من التماسك والهارمونية في نسيج شعري مترابط،‮ ‬أظهر فيه نزار قباني مهارته الشعرية المعهودة،‮ ‬في ترتيب الأسطر على الصفحة الشعرية،‮ ‬في تبيين لحظات القراءة ولحظات التوقف عبر تتالي الكلمات بإيقاعاتها ومعانيها،‮ ‬ووحداتها الصرفية،‮ ‬وعبر علامات الترقيم‮.‬
النص هنا اتخذ منحى جماليا لا منحى بصريا فحسب،‮ ‬إذ إن شكل الرسالة المكتوبة في سياقها النثري يتجلى هكذا في توزيع الأسطر بشكل يوائم بين طول الأسطر وقصرها‮. ‬والرسالة هنا‮ « ‬رسالة حب قصيرة‮» ‬وهي رسالة شعرية بالأحرى،‮ ‬ومن هنا فإن نزار قباني يكثف المعنى في كلمات قليلة‮ ‬،‮ ‬صغيرة جميلة،‮ ‬لأنه وهو مبدع الشعر الأنيق الذي تتأنق فيه لغاته وكلماته وصوره وتتزين جماليا،‮ ‬يسعى دائما إلى تكثيف المعنى بأقل الكلمات،‮ ‬إنه يمارس ببراعة مفهوم التقشف اللغوي،‮ ‬لكنه لا يتخلى أبدا عن منظومته الجمالية الأنيقة‮.‬
إذا نظرنا إلى النص في شكله البصري سنجد أن نزار استهل نصه بأربعة أسطر شعرية يقول فيها‮:‬
حبيبتي
لدي شيء كثيرْ
أقوله
لدي شيء كثيرْ
بهذا المنادى المحذوف الأداة بدأ النص،‮ ‬وهو منادى ذو دلالات عميقة في الذهنية الشعرية العربية،‮ ‬هودالة ليست عادية بل هي إحدى الدلالات الإنسانية والجمالية كثيفة الحضور في الكتابة‮:” ‬حبيبتي‮” .. ‬احتلت وحدها السطر الشعري الأول‮ ‬،‮ ‬وهي في شكلها البصري هنا تمثل أيقونة،‮ ‬لوحة معنوية‮ ‬إذا جاز المقصد‮ ‬وهي من جانب آخر تفتح مجالاً متوقعا للتعبير عن كلام شعري قادم‮.. ‬فالمنادى هنا‮ :” ‬حبيبتي‮” ‬يزجي حيال توقعاتنا رؤى قادمة،‮ ‬شافة عما يخايل كاتب الرسالة‮:” ‬الشاعر‮” ‬من صور ودلالات‮. ‬الحبيبة هي المناداة،‮ ‬وهي أول من يتلقى رسالة الحب الصغيرة،‮ ‬والقارئ هو المشاهد والمتفرج والمتلقي الثاني للرسالة بعد الحبيبة سواء كانت حقيقية أم متخيلة‮. ‬وفي هذا فإن القارئ يبقى في حال انتظار مثله مثل الحبيبة،‮ ‬ومبدع النص هو الذي يصوغ،‮ ‬ويهيمن،‮ ‬ويرى دلاليا‮. ‬
وتوزيع الاسطر الأربعة بصريا وازى إيقاعيا بين‮:” ‬حبيبتي‮” ‬و‮”‬أقوله‮” ‬والكلمتان تفتحان معا مجالا دلاليا واسعا،‮ ‬الكلمتان مرتبطان سيميائيا وبصريا وإيقاعيا،‮ ‬كلتاهما مندرجتان في فضاء التفعيلة‮:” ‬مفاعلن‮” ‬إحدى مظاهر التفعيلة الأصلية‮” ‬مستفعلن‮” ‬بعد دخول‮ ” ‬الخبر‮ ” ‬عليها بحذف الثاني الساكن‮. ‬
أما السطر المحتشد بالدلالة فهو الثاني الذي يتكرر كما هو في الرابع‮:” ‬لدي شيء كثير‮” ‬ليثير استجابة القارئ بهذا التكرار،‮ ‬والتأكيد على أهمية ما سيقوله الشاعر بعد ذلك من عبارات‮.‬
 ‬2‮- ‬-
في النص النزاري تتتالى الدلالات التي تحملها‮ ‬الأسطر الشعرية،‮ ‬ولولا أن رؤيتنا هنا تسعى لبيان الشكل البصري للنص،‮ ‬لتحدثنا عن جمالية الصور وحركتها الكثيفة المتسلسلة،‮ ‬وسردنا نقديا حوافها السياقية والتركيبية،‮ ‬وبينا كثافتها التعبيرية الأنيقة،‮ ‬بيد أن الالتفات للشكل هنا له وجاهته في قراءتنا‮ . ‬فما أود الوصول إليه هنا هو أن الشاعر قدم لنا شكلا نصيا نقل فيه النص الشعري العمودي التقليدي البيتي إلى شكل أقرب للرسالة الشعرية،‮ ‬إلى شكل يستعير فيه الشكل التفعيلي والنثري للكتابة،‮ ‬وهذا من معجزات النص البيتي التقليدي الذي تستطيع أن تشكله بصريا كيفما شئت‮. ‬
لقد مزج نزار قباني بجرأة إيقاعية ملحوظة بين تفعيلات الشطرين الواردين من بحر السريع” مستفعلن مستفعلن فاعلن‮ .. ‬مستفعلن مستفعلن فاعلان‮” ‬وأعاد تفتيت التفعيلات ومزجها بتوزيعها في أسطر شعرية،‮ ‬حافظ فيها حينا على التركيبة العروضية البيتية،‮ ‬وكسر إيقاع هذه التركيبة في أحيان أخرى،‮ ‬حتى إن الشطرين امتزجا في عدة مشاهد،‮ ‬كما في قوله مثلا‮: ‬
دعي حَكايا الناسِ‮ ..‬
لَنْ‮ ‬تُصْبِحِي كبيرَةً‮ .. ‬إلاّ‮ ‬بِحُبِّي الكَبيرْ
فتوقف عند كلمة‮ « ‬الناس‮» ‬في السطر الأول كاسرا ترتيب البيت عروضيا،‮ ‬ثم واصل تكسير هذا الترتيب بالمزج بين عروض الشطر الأول وبداية الشطر الثاني‮ ‬،‮ ‬حيث كان من المفترض أن ينتهي الشطر الأول عند كلمة‮:” ‬تصبحي‮” ‬،‮ ‬وقد تكررت هذه الصياغة في أسطر شعرية أخرى بالنص‮.‬
بطبيعة الأمر اعتمد نزار قباني على آلية‮”‬التدوير العروضي‮” ‬ومتابعة إعادة لصق السطر بالسطر حتى يكتمل الشكل العروضي،‮ ‬وتتلاقى الكلمات في شريطها العروضي المتتابع،‮ ‬على الرغم من أن التدوير يمتنع في الشكل العمودي الذي يختتم دائما بقافية،‮ ‬تنتهي عندها الصورة العروضية للبيت الشعري بشكل مكتمل سليم،‮ ‬وهذا ما قد يحفزنا لاستلهام الشكل البصري لشعر التفعيلة وقصيدة النثر لإجرائها على الشكل البيتي ليقبل آلية التدوير من خلال مناطق الحشو داخله‮.‬
 ‬3‮-‬-
يبدي النص النزاري هنا قدرا كبيرا من‮ ‬مطواعية الشكل العمودي البيتي على الكتابة بأي شكل بصري،‮ ‬لأن الشكل التناظري الذي اعتدنا عليه،‮ ‬شطر مقابل شطر حتي نهاية القصيدة،‮ ‬قد يعطي إطارا معينا،‮ ‬وتنميطا محددا لآلية القراءة الشفاهية الإنشادية التي تبدأ بالبيت وتنتهي عند اقلافية،‮ ‬أما في هذا الشكل فإن ثمة مساحات قراءة ‬إيقاعية متعددة متنوعة‮.‬
نزار قباني لم يرد في هذا النص أن يقدمه في شكله الحقيقي‮. ‬فالمباغتة الجمالية المدهشة أن هذا النص القصير هو نص عمودي بيتي من الطراز الأول،‮ ‬وما يدهشنا كقراء هنا أن تحويله إلى شكل بصري حديث أعطاه جملة من الميزات التى انفتحت على شكل الإيقاع،‮ ‬وشكل الكتابة،‮ ‬وتوزيع الأسطر الشعرية‮. ‬لقد تحولت الأبيات إلى أسطر،‮ ‬وتحولت القوافي إلى أيقونات بصرية،‮ ‬وازداد بعد الكثافة الجمالية للكلمات‮.‬
إن هذا يدلنا على أن النص العمودي نص مفتوح على مختلف الأشكال‮. ‬فلم تحدث عوائق فنية محددة حيال الانتقال من الشكل البصري البيتي إلى الشكل البصري التفعيلي أو النثري‮. ‬وأن قابلية تشكله ومطواعيته البصرية كبيرة وثرة ومدهشة‮.‬
لقد أراد نزار قباني أن ينقلنا إلى رسالته بطريقته الخاصة ففتح المجال أمامنا بصريا،‮ ‬ووزع كلماته بشكل جديد مختلف،‮ ‬ليفرض علينا طريقة معينة أكثر خصوبة وأكثر ثراء لقراءة نصه،‮ ‬بحيث لا نكتفي بالبعد التطريبي الإنشادي فحسب،‮ ‬ونقف عند نهايات الأبيات في قوافيها المنتظمة،‮ ‬ولكن بالبعد البصري الدرامي الإيقاعي أيضا‮. ‬إن تغيير طريقة الكتابة هنا بشكل بصري وتوزيع الأبيات إلى أسطر شعرية أعطى نغما جديدا للنص تمثل في التركيز على الكلمات بدلا من التركيز على البيت،‮ ‬وأحدق بوعينا لنتمثل كلماته،‮ ‬وصوره،‮ ‬وكثافته وأخيلته وأناقته الجمالية‮.‬
_________________________
* شاعر وناقد وأديب من مصر. /(أخبار الأدب). 

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *