الكتب متحف حيّ


*عوّاد ناصر

مثلما احتفلت اليونسكو، قبل أيام، بالكتب إحدى أكبر وسائل التربية والتثقيف في حياة الناس، وضرورة توفيرها بأشكال ومستويات متعددة بدءاً بالمدرسة الابتدائية وانتهاء بالتثقيف الذاتي لمختلف القراء، عبر المعمورة، علينا أن نبتكر وسائل مماثلة للاحتفال والاحتفاء بالكتب وإعادة الاعتبار للكلمة المبدعة في عالم يقصي الكلام وحرية التعبير وينظر للإبداع المكتوب شزراً لأن الحاجات اليومية لهذا العالم باتت بعيدة، كل البعد، عن الجوانب العقلية والروحية للناس، حيث الطابع الاستهلاكي هو جوهر عالم اليوم، حتى في الدول التي تسمى بـ المتحضرة ، وهي في الغرب عموماً، دخلت الكتب عالم السوق والاستهلاك والربحية ولم تعد أكثر الكتب مبيعاً هي أكثر الكتب إبداعاً، فكتب الجنس والطبخ والمغامرات والخيال العلمي على طريقة الكاتبة البريطانية ج. ك. رولنغ؛ التي تحكي حكاية الساحر هاري بوتر لتجعل من الصبي دانيل رادكليف نجماً عالمياً وليس على طريقة أتش. جي. ويلز صاحب الروائع وأشهرها آلة الزمن .
تاريخ الكتب هو سجل الكفاح الشاق التي خاضته الكلمات لجعل العالم أقل عتمة وقسوة، وصار كل كتاب هو حزمة من الأشعة الضوئية التي تنير الطرقات المظلمة أمام القرّاء في مختلف الأزمنة والأمكنة، عبر العالم، ومن هنا، صارت الكتابة، مثل الحب، لأنها مقدار ما تغيرنا وتنقلنا من حال إلى أخرى.
الكتب باللغات الأم لكتابها هي متاحف حية، لا أماكن خزن للتحف، تحفظ لغة الشعوب وتحرسها وتصونها من الانقراض وتضعها قيد التداول المتجدد Updating ولكلما صدر كتاب جديد باللغة الأم يضيف إلى اللغة الوطنية دماً جديداً ويمدها بوسائل الحياة والطاقة الخاصة على الإمتاع والتغيير وتهذيب السلوك البشري.
في حقبة الانقلابات العسكرية اليمينية العربية، من ستينيات القرن الماضي، كانت الكتب، بغض النظر عن محتوياتها الفكرية، يسارية أو يمينية، دليل إثبات مباشر على هوية المتهم من مقتنيها، وصار المواطن،مجرد قارئ للكتب، متهماً بدرجة ولائه للسلطة وينطوي على خطر داهم على الأمن القومي، وعرف الناس في بعض العواصم العربية، مثل بغداد ودمشق والقاهرة، تقاليد جديدة هي إخفاء الكتب أو حرقها أو طمرها، والقول، اليوم، بوجود من ينظر إلى قارئ الكتب بأنه مناوئ للواقع السياسي والثقافي والأخلاقي للبلد، ليس مغالاة ، لكن وسائل الاتصال الحديثة شكلت تحدياً خطيراً لأعداء الكتب والثقافة والفن وما يدخل في باب أشكال التعبير والتواصل الاجتماعي المتنوعة، التي ابتكرها علم الاتصال الحديث إثر ثورة المعلومات الهائلة التي شملت العالم الحديث، من أقصاه إلى أقصاه، وهكذا نقرأ ونسمع ونعرف أن عدداً من بلداننا العربية يحاول حجب المعلومات والتضييق على الإنترنت والفيس بوك والتويتر، لما تمثله من اختراق ثقافي لمجتمعات التابو العربية.
لكن الكتب الجريئة، رغم هذا التطور الكبير في سوق التداول والرواج، لم تنجح في الوصول إلى أيدي محتاجيها من القرّاء المتعطشين للمختلف والجديد من الأفكار والصيغ ومناهج التفكير العلمي، التحديثي، الجمالي، والدليل هو أن قياسات بيع الكتب في معارض الكتاب العربي تشير إلى رواج الكتب متدنية المستوى، التي تخاطب العقول الكسولة في السحر والخرافة والغرائز على حساب الكتب التي تتوجه نحو العقل وإثارة التفكير وتحدي عقول قارئيها وإثراء خيالهم والانتقال بهم إلى مستويات غير مألوفة للوضع البشري السائد والمكرّس.
الناشرون مسؤولون، طبعاً، لأنهم ينشرون كتباً رديئة القيمة لأن المؤلفين يدفعون أثمان الطباعة والتوزيع والنقل، لكنهم ليسوا وحدهم من يتحمل المسؤولية حتى لو كان السوق بحاجة إلى نوع معين من الكتب، فثمة وزارات الثقافة والإعلام والتربية والتعليم ومؤسسات المجتمع المدني إن وجدت .
كلها مسؤولة، وكلنا مسؤولون.
___________
* شاعر من العراق يقيم في لندن.
(ألف ياء)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *