الشعر واللعب بالمفاهيم


*عباس بيضون

لو سألنا فرنسياً عن التعارض بين الشعر والسياسة واستقلال الشعر عن السياسة لوجد جواباً. أما لو سألنا أميركياً فلن يهتم للسؤال ولن يعتبره مطروحاً فوولت ديتمان أول شعراء الحداثة الأميركيين شاعر سياسي وشعراء «البيت» شعراء سياسيون. استقلال الشعر عن السياسة هاجس فرنسي ولعله تسرب من هناك إلى الشعر العربي. مجلة «شعر» رغم أن مؤسسها يوسف الخال لم يكن فرانكفونياً بل انغوفوني او أميركانوفوني تبنت المفهوم الفرنسي وأذاعته في الأدب العربي. منذ ذلك الحين بدا أن تخليص الشعر من السياسة هو واجب الحداثة الشعرية. رغم أن مجلة شعر توفرت على مهام يصعب استبعاد السياسة منها، فنقد الأصولية التراثية والعقل التراثي وتجديد الفكر الشعري ورؤاه والالتحاق بالاتجاهات العالمية وإخصاب الثقافة العربية بالوافد الأجنبي، كل هذه مسائل يصعب إبعادها عن السياسة ولا بد من أن تتصل بالسياسة في واحدة من محطاتها. وهي في التحليل الأخير ذات أفق سياسي لا ينكر. لذا جاز أن تكون لا سياسية «شعر» سياسة وإن بطريقة أخرى. كان ظهور «لا شعر» متواقتاً مع مد سياسي عارم هو المد الناصري، هذا المد كان جماهيرياً وشعبياً وقد رافقه بالطبع أدب تعبوي تحريضي لا ينفصم عنه.
هذا الأدب كان بالضبط يستلهم المزاج الشعبي ويراعيه وينتج له. افتقدنا هنا استقلال الأدب بالكامل، وافتقدنا الكيان الأدبي، فما ذاع في تلك الآونة كان نوعاً من الأدب الشعبي ولو صيغ بفصاحة متقصدة. لم تكن هذه الفصاحة لتقلل من شعبية هذا الأدب وشعبويته في آن، كان التراث وخياله البدوي هما خزان الصور والرؤى، وكان هدف هذا الأدب هو استثارة المزاج الشعبي بصور وإشارات غير بعيدة عنه. بل هي، على نحو ما، خزانته وذاكرته وتراثه. أي أن الأدب كان آنذاك حرفة ليس للأدباء فيها سوى فضل الترتيب والصياغة. أما الفحوى وأما الصنعة فهي جميعها جاهزة حاضرة وليس للأديب او الشاعر سوى أن يرتب ويستمد ويضع الأشياء في مواضعها.
الأدب الوطني او الشعر الوطني الذي ساد تلك الآونة لم يكن فيه من شخصية صاحبه سوى هذه المهارة، ولم يكن بحال ليعكس شخصية صاحبه او رؤيته. إنما هو أدب عام ليس لصاحبه سوى فضل المهارة والحرفة. مثل هذا الأدب كان شعبياً وعاماً ولم يكن فيه من الخلق والإبداع، بأي معنى كان، سوى القليل والقليل. والحق أن مجلة شعر ثارت ضد هذا الأدب وإن أخطأت تسميته. لقد اعتبرته موروثاً وتراثياً وماضوياً وكلاسيكياً لكنه لم تنتبه إلى أنه قريب على نحو ما من الزجل والحرف الشعبية. لم تنتبه إلى انه ليس كلاسيكياً بمعنى الكلمة، فهو ذو خيال بدوي وبينه وبين البداوة آصرة أكيدة. فات مجلة شعر أن هذا الأدب المغرق في فصاحته وفي بعده اللغوي، هو رغم ذلك وبذلك نوع من الأدب الشعبي. لربما شعرت بذلك مجلة «شعر» وان لم تقله. لذا بدت ارستقراطية بالنسبة لهذا الأدب. بدت ارستقراطية وسياستها أيضاً سياسة ارستقراطية فهذه الدعوة إلى التمرد والى الرفض والى الإنكار والنفي، وهذه الثورة على البداوة الكامنة في الصور والرؤى، وهذا النقد المر للعقل العربي وهذا الانفتاح على العالم وعلى الغرب بالخصوص. كل هذا كان بطبيعة للحال سياسة، غير أنها السياسة التي لا توزن بموازين تلك الأيام. المد السياسي الجماهيري العروبوي لم يكن أيضاً ليلائم الانحيازات الفكرية لجماعة شعر او لأفرادها، لم يكن لهؤلاء وأصول قسم منهم سورية قومية اجتماعية صبر على سياسات الشارع وغلياناته وهيجاناته. لم يكن لدى هؤلاء تجاه ذلك سوى احتقار ارستقراطي استمدوه من فكر يبحث عن السياسة في الأساطير ما قبل التاريخية وفي الروح الخالدة وفي الأدوار الحضارية وفي شخصية الأمة. وكل هذا بعيد أكثر ما يكون عن ذهنية القطيع التي تتجلى في حراك الشارع، عن ديموغاجية سياسات الشارع. ثم أن الشعر الوطني يومذاك كان ترجمان ذهنية القطيع هذه وديماغوجية سياسة الشارع. كان هناك بالتأكيد هذا التعاطي الارستقراطي مع السياسة الذي أدى أحياناً إلى انكارها وابعادها عن طريق الشعر والأدب. كان موقف «شعر» من الشعر السياسي والأدب السياسي ب عامة محكوماً بهذين العاملين. لم يكن الشعر السياسي يومذاك سياسياً بحال، وتسمية الشعر الوطني له آنذاك كانت في محلها. لقد كان بحق شعراً وطنياً، أي شعراً يتمدح بالأهل ويتمدح بالماضي ويتمدح بالذات. لقد كان نوعاً من التروبادور المحلي. كان بهذا المعنى أشبه بالزجل ولو اختلفت لغته عن الزجل. وعلى كل حال كان في التماس الفصاحة البدوية المفرطة نوعاً من الزجل المقلوب. فقد كان في التماس هذه الفصاحة البدوية نوع من أصولية مزعومة. كان في تلك العودة نوع من الفولكلور إذ لم يكن في هذه العودة استعمال حديث للغة البداوة تلك ولا انتحال مقصود، لقد كانت العودة بحق فولكلورية. ثم أن سياسات الشارع الهائج آنذاك. كان استفزازاً لروح النخبة وعقلية النهضة اللتين طبعتا معظم مؤسسي شعر ككل الآونة.
كان ما بين هؤلاء المؤسسين وبين غليان الشارع فكرة أخرى عن الخروج وعن الثورة، فكرة تجد مصادرها في زارادشت نيتشه وارتور رامبو وتمرد جلقامش وروح الأمة. مثالات أرستقراطية وخيالية لم تكن لتتقاطع مع ذهنية القطيع وصورة القطيع التي رأوها في الشارع. السياسة التي طردت من الشعر كانت سياسة الأدب الوطني وسياسة الشارع. لكن استقلال الشعر عن السياسة تحول مع الوقت إلى مبدأ جوهراني، إلى ركن في الحداثة الشعرية. لا بد أن للتأثير الفرنسي يداً في ذلك كما أن لهذه التأثير نتائجه في مجالات أخرى. لم يستقل الشعر عن السياسة فحسب لكنه كاد يستقل عن الموضوع ويستقل عن المعنى فتحوله إلى لغة بحتة فُهم أحياناً ومن البعض على انه مجرد لعب باللغة، لعب خارج الفكر وخارج الموضوع وخارج المعنى. لم يبتعد الشعر عن السياسة فحسب لكنه تحول لدى البعض إلى الهية لغوية والى نوع من البراءة اللغوية وأحياناً إلى نظام من عشوائية لغوية او تنضيد لغوي. وفي كل الأحوال فإن الشعر هكذا تحول إلى برانية كاملة. فهو في حين دعا إلى تخليص الشعر من المناسبة والغرض الخارجيين الطارئين عليه، كان يخلي الشعر أحياناً من أسئلته وحقائقه وحدوسه يخلي اللغة نفسها من حدوسها وحقائقها وكشوفاتها. هنا انتقلنا من الفولكلور إلى اللعب لكننا لا نزال في المحل ذاته تقريباً.
__________
* شاعر وأديب من لبنان.
(ألف ياء)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *