موعدنا في مصر،‮ ‬وقرطبة،‮ ‬ثم القدس‮!‬


*فاطمة‮ ‬ناعوت

“‬عزيزتي،‮ ‬بالأمس،‮ ‬حلمتُ‮ ‬بكِ‮. ‬في‮ ‬هذا الشتاء الكَنَديّ‮ ‬القارس،‮ ‬رأيتُني‮ ‬معكِ،‮ ‬نُصلّي‮ ‬صلاتنا،‮ ‬وجوارنا مسيحيون‮ ‬يُصلّون صلاتهم‮. ‬فقلت لكِ‮ ‬هذه القدس،‮ ‬حيث‮ ‬يجاور الأقصى القيامة؟ ” .فقلتِ‮ ‬لي‮:”‬هذا هو الجمالُ‮ ‬والتحضّر‮! ‬تُرى،‮ ‬أيكونُ‮ ‬موعدنا القادم في‮ ‬القدس؟‮”.
وصلتني‮ ‬هذه الرسالة من صديقتي‮ ‬البحرينية الكاتبة‮ »‬شيماء البلّوشي‮« ‬المهاجرة إلى كندا‮. ‬التقينا علي الورق منذ دهرٍ،‮ ‬ولم نلتق وجها لوجه إلا قبل عامين في‮ ‬كندا‮. ‬فوجدتُ‮ ‬طفلةً‮ ‬تحبُّ‮ ‬العالمَ‮ ‬والبشر كما‮ ‬يحبُّ‮ ‬الأطفالُ‮ ‬كلَّ‮ ‬ما حولهم ومَن حولهم دون حسابات أو شروط أو تراكم معرفيّ‮ ‬يفسد عليك براءة الانصهار في‮ ‬الآخر‮. ‬طفلة مثقفة ستبذل الجهد حتى تميّز بينها وبين طفلتها الجميلة‮ “‬هبة‮”.‬
أحببتُ‮ ‬حُلمَها الذي‮ ‬كنتُ‮ ‬بطلته‮. ‬أحببته فآثرتُ‮ ‬أن أرد عليه لا في‮ ‬رسالة،‮ ‬كما وصلني،‮ ‬ولا عبر حلمٍ‮ ‬عكسي‮ ‬أحلمه وأجعلها بطلته،‮ ‬بل عبر شرفتي‮ ‬هنا ، ‬ليكون حلمها الجميل‮ زهرة ‬الأسبوع أهديها للقراء‮.‬
لن أحدّثها عن المسجد الأقصى الذي‮ ‬يفصله عن كنيسة القيامة،‮ ‬عدة أمتار،‮ ‬ولا عن الحارات الأربع التي‮ ‬تعمُرُ‮ ‬القدس‮: ‬حارة الأرمن،‮ ‬حارة النصارى،‮ ‬حارة اليهود،‮ ‬وحارة المسلمين،‮ ‬ولا سأحكي‮ ‬عن مسجد‮ “‬عمر بن الخطاب”‬الذي‮ ‬يواجه الكنيسة ولا‮ ‬يفصله عن قبر السيد المسيح عليه السلام سوى خطوات معدودة،‮ ‬ولن أخبرها عن‮ “‬طريق الآلام‮” ‬الذي‮ ‬قطعه السيد المسيح حاملا صليبه،‮ ‬ولا بد أن‮ ‬يمشيه كل مسلم قبل أن‮ ‬يصل إلى المسجد ليصلي‮ ‬صلاته،‮ ‬ولن أتكلم عن مفتاح الكنيسة الذي‮ ‬لا تحمله أيّ‮ ‬من الطوائف المسيحية الكثيرة،‮ ‬بل استودعه المسيحيون أمانةً‮ ‬لدى عائلة مقدسية مسلمة تتوارثه جيلاً‮ ‬بعد جيل،‮ ‬بل سأحكي‮ ‬لها عن كنيسة مسجد في‮ ‬بناية واحدة،‮ ‬شاهدتُ‮ ‬فيها المحرابَ‮ ‬لصقَ‮ ‬المذبحَ،‮ ‬والآياتُ‮ ‬القرآنية تعانق جسد السيد المسيح والسيدة العذراء وتماثيل القديسين‮. ‬
كاتدرائيةُ‮ ‬المسجد‭ ‬في‮ ‬قرطبة بأسبانيا‮. ‬كانت في‮ ‬الأصل معبدًا وثنيًّا،‮ ‬تحول إلى كنيسة في‮ ‬زمن القوط الغربيين بالقرن الثالث،‮ ‬وخلال الحكم الأموي‮ ‬بالأندلس تحولت الكنيسةُ‮ ‬إلي مسجد،‮ ‬ومع حروب الاسترداد وخروج المسلمين من الأندلس،‮ ‬أعادوا المسجدَ‮ ‬كنيسةً‮ ‬كاثوليكية،‮ ‬لكنهم متحضّرون فاحتفظوا بكامل ما بداخلها من رموز وإشارات إسلامية مثل المحراب والآيات القرآنية تزيّن جدرانها،‮ ‬حتى أنك ستجد مكتوبًا علي تذكرة الدخول‮: “‬لا تنسَ‮ ‬أنك في‮ ‬كنيسة‮”‬،‮ ‬كيلا‮ ‬يختلط الأمرُ‮ ‬علي الزوار فيظنون الكنيسةَ‮ ‬مسجدًا‮. ‬
لهذا كتبتُ‮ ‬في‮ ‬قصيدتي‮ “‬قرطبة‮”: ‬
حين نُسلِّمَ‮ ‬الأرضَ‮ ‬إلى ‬الله‮
‬سيكون علينا أن نُعيدَ‮ ‬الكونَ‮ ‬سيرتَه الأولى:
‬نزرعُ‮ ‬الغاباتِ‮ ‬التي‮ ‬أحرقناها‮
‬وننفخُ‮ ‬من أرواحِنا‮
في‮ ‬الهياكل العظميّة
‬التي‮ ‬وأدنا الروحَ‮ ‬فيها،‮
‬نُعيدُ‮ ‬للطير أمانَه‮
‬وزقزقتَه‮
تلك التي‮ ‬تعلّمَ‮ ‬أن‮ ‬يُسكتَها‮
‬كلمّا مررنا‮
-‬نحن البشر‮-
‬جوارَ‮ ‬شجرة،‮
‬نُعيدُ‮ ‬الصحراءَ‮
صحراءَ‮
والمروجَ‮ ‬فراديسَ‮
‬ثم نلصقُ‮ ‬التفاحةَ‮ ‬المأكولةَ‮
‬في‮ ‬شجرة الخطيئة الأولى
‬كي‮ ‬يحبَّنا الله،‮
‬ندرّبُ‮ ‬أنفسَنا‮
‬أن نسيرَ‮ ‬فوق الرمال‮
دون أن تدهسَ‮ ‬أقدامُنا الطولى
أسرابَ‮ ‬النمل الطيبة،‮
‬سيكونُ‮ ‬علينا‮
‬أن نفكِّكَ‮ ‬نهرَ‮ ‬قرطبةَ‮
‬ثم نعيدُ‮ ‬الكاتدرائيةَ‮ ‬مسجدًا‮
‬والمسجدَ‮
‬كنيسةً‮ ‬رومانيةً‮.
‬سيقفُ‮ “‬ابنُ‮ ‬رشد‮” ‬بين المذبح والمحراب ليقول‮:
“‬الحقُّ‮ ‬لا‮ ‬يضادُّ‮ ‬الحقَّ‮!”
‬ثم نقف أمام الله في‮ ‬صفٍّ‮ ‬طويل‮
‬لنشهدَ‮
‬كيف نحنُ‮
‬جعلنا الحقَّ
‬يُضادُّ‮ ‬الحقّ‮.

” ‬والآن صديقتي‮ ‬الطيبة،‮ ‬هل‮ ‬يحقُّ‮ ‬لي‮ ‬أن أردَّ‮ ‬إليك حُلمَك بحلم؟ أحلمُ‮ ‬أن نلتقي‮ ‬المرة القادمة مع أصدقائنا المسيحيين داخل كاتدرائية المسجد بقرطبة ليصلّي‮ ‬كلٌّ‮ ‬منّا صلاته،‮ ‬ثم نتصافح جميعًا‮. ‬ثم أحلم بأن‮ ‬يكون لقاؤنا التالي‮ ‬في‮ ‬مصر لنؤدي‮ ‬الطقس نفسه في‮ ‬المساجد والكنائس،‮ ‬قبل أن نعلن أننا جميعًا نعبد إلهًا واحدًا لهذا الكون،‮ ‬كلٌّ‮ ‬عبر تصوّره وطقسه‮. ‬موعدنا القادم،‮ ‬إذن،‮ ‬بالقاهرة‮”.‬
_____________
*شاعرة وأديبة من مصر
أخبار الأدب
 

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *