غواية الرواية التاريخية في رواية “آلموت” لبارتول


موسى أبو رياش *

( ثقافات )

للرواية التاريخية سحر لا يقاوم، وجاذبية يصعب التغلب عليها؛ لما تشكله هذه الرواية من حضور طاغٍ، وأي شيء أكثر حضوراً من تاريخ! فهو -على الأقل- أصدق من حاضر غائم، ومستقبل ما زال في علم الغيب؟!
وتحظى الرواية التاريخية برواج قل ما تحظى به غيرها من الروايات، ومرد ذلك –ربما- أن الإنسان بشكل عام والقارئ بشكل خاص يحن إلى الماضي، ويجده أجمل؛ لما في الماضي من سحر وأحداث وحكايات تجذب انتباهه، وتستحوذ على إعجابه واهتمامه. والتاريخ بشكل عام مصدر تشويق وإثارة ودهشة، وفي السرد الأدبي تتكثف عناصر التشويق بأبهى صورها.
بداية، لا بد من التأكيد أن الرواية التاريخية ليست تاريخاً، ولا يمكن اعتبارها مصدراً تاريخياً من قريب أو بعيد، وإنما هي رواية تستلهم التاريخ، أو تتكأ على التاريخ، أو يكون التاريخ ركيزة من ركائزها، أو تتناول موضوعاً تاريخياً. وإذا كنا نتفق أن الرواية عمل أدبي متكامل له شروطه وأدواته وفنياته، فلا بد أن نعترف أن للروائي الحق في اختلاق الأحداث والشخصيات والأماكن؛ ليعطي عمله بعداً فنياً مقنعاً للقارئ، وعليه، فالرواية التاريخية ليست تاريخاً، وإن كانت تستمد من التاريخ مادتها.
ومن الأمثلة على الروايات التاريخية التي نالت شهرة ونجاحاً ورواجاً: روايات/مسرحيات شكسبير (يوليوس قيصر، عطيل، الملك لير، وغيرها)، ورواية “الحرب والسلام” لتولستوى، وروايات اسكندر دوما (الفرسان الثلاثة، عقد الملكة، والملكة مارجو، وغيرها)، وروايات ميشال زيفايكو (بورجيا، سيف باردليان، انتقام فوستا وغيرها)، وروايات نجيب محفوظ (كفاح طيبة، عبث الاقدار، رادوبيس)، ورواية “يوم غائم في البر الغربي” لمحمد المنسي قنديل، ورواية “واحة الغروب” لبهاء طاهر، وروايتي يوسف زيدان (عزازيل، النبطي)، ورواية “دروز بلغراد” لربيع جابر، وغيرها من الروايات التي تمتلئ بها رفوف المكتبة العربية والأجنبية.
وتعد رواية “آلموت” لفلاديمير بارتول من أنجح الروايات التاريخية وأجملها على الإطلاق، لأنها تناولت موضوعاً تاريخياً ما زال طلسماً ولغزاً محيراً، على الرغم من مئات الكتب والدراسات والأبحاث والروايات التي تناولته بشكل مباشر أو غير مباشر.
رواية “آلموت” تتناول جزءاً من حياة الحسن بن الصباح مؤسس ما يعرف بـالطائفة الإسماعيلة النزارية أو الحشاشين ، في قلعة “آلموت/عش النسر” وهي حصن جبلي موجود بوسط جبال “البرز/الديلم” جنوب بحر “قزوين” في مدينة “رود بار” بالقرب من نهر “شاه ورد” وتبعد حوالي 100 كم عن “طهران”.
تصور الرواية –حسب رؤية الكاتب- كيف حقق الحسن بن الصباح حلمه في خلق جنته الأرضية، وجنده وأتباعه الذين لا يعصون له أمراً إيماناً وتسليماً، ومملكته المنيعة المحصنة، التي أصبحت محجاً لأتباع الطائفة الإسماعيلية. واستطاع بجهوده وتخطيطه المحكم من صنع المستحيل، وهزيمة الجيوش، واقتحام القصور بفدائييه للتخلص من خصومه وأعدائه، حتى شكل رعباً لجميع مخالفي الدعوة الإسماعيلية، ينتظر كل منهم أن يفاجئه خنجر مسموم يقضي عليه، خاصة وأن خناجره تودي إلى القبر، ولا نجاة لمن أصيب بها.
تركز الرواية على خطة الحسن في الإعداد والتحضير وخاصة للفدائيين والجواري، فهؤلاء لهم مدرسة لها برامجها ومناهجها ومدرسيها، التي يجب أن ينجح فيها الجميع بعد اختبارات شاقة ودقيقة، وأي مخالف أو مقصر فمصيره الموت دون رحمه، فالغابات العظيمة تهون في سبيلها النفوس والأرواح والتضحيات.
الرواية طويلة وممتعة، خلاصتها أن الحسن بن الصباح أثبت صحة نظريته، وإن على نطاق ضيق، ولذا عندما أيقن من تحقق الحلم، وانتصار دعوته، تخلص من الحياة، فدعوته لم تعد بحاجة إليه، وربما هي إلى موته أحوج، لما يشكله موته من غموض وسحر ودهشة.
تناولت روايات عديدة بشكل أو بآخر قلعة “آلموت” وشيخ الجبل “حسن بن الصباح” مثل رواية “سمرقند” لأمين معلوف ورواية “السيف المعقوف” لهارولد لامب، ولكن تبقى رواية “آلموت” لبارتول هي الأشمل، والأكثر عمقاً وتخصصاً.
رواية “آلموت” كأي رواية تاريخية، لها أسئلتها التي تثيرها عاصفة مدوية في ذهن القارئ، وتشكل مصدر قلق وحيرة له، وتدفعه إلى مزيد من البحث والدراسة والقراءة للحصول على المزيد، في محاولة لإزالة الغموض، والإجابة على التساؤلات. وأظنها لن تؤدي –في الغالب- إلا إلى مزيد من الأسئلة والحيرة.
ومن أهم أسئلة رواية “آلموت” لبارتول:
– هل يحق للكاتب أن يتلاعب بالتاريخ كيف يشاء؟ وأن يجير التاريخ حسب رؤيته خدمة لأغراضه؟
– هل الأحداث التاريخية أو بعضها على الرغم من قدمها والقرون التي مرت عليها تظل لغزاً محيراً لا يمكن الوصول إلى حقيقتها؟
– هل للدعاة وصاية على الأتباع؟ وهل لهم الحق في التصرف بهم وخداعهم وتضليلهم لتحقيق أهدافهم، والوصول إلى غاياتهم؟
– إلى متى تبقى المبادئ قناعاً للغايات الخفية والمصالح الشخصية ومصيدة للأتباع؟
– ما غاية الكاتب من استحضار التاريخ القديم في العصر الحديث؟
– هل العودة إلى التاريخ هروب من الحاضر، أم توظيف للتاريخ للتعريض بالحاضر؟
رواية “آلموت” لا تجيب على هذه الأسئلة وغيرها، بل تفجرها في وجوهنا كبركان. والإجابة عليها مرهونة بقناعات كل قارئ. وستبقى محل اختلاف وجدال وسجال. وهنا مكمن قوة هذه التساؤلات وأهميتها، فما لا إجابة له، يختزن إثارته وقوته وحيوته في داخله.
كتب السلوفيني بارتول روايته “آلموت” في ثلاثينيات القرن العشرين إبان صعود نجم هتلر في ألمانيا، وستالين في روسيا، وموسوليني في إيطاليا، أي في زمن صعود النظريات الشمولية، وبوجود هذه القيادات الطاغية التي تطمح إلى تغيير العالم من وجهة نظرها وإيدلوجيتها، ولو على حساب سحق الآخرين وحقهم في الحياة، في مقاربة تاريخية ناجحة تسجل له، وتؤكد جدارة الرواية وأهميتها.
إن رواية “آلموت” لفلاديمير بارتول، ترجمة فاطمة النظامي (منشورات الجمل، ط2، 2011، 624 صفحة) رواية كبيرة رائعة جميلة، يجب أن تقرأ بعناية، كعمل أدبي فحسب. وأن لا تحاكم تاريخياً، وأن يؤخذ ما فيها من تاريخ كأحداث سردية لغايات فنية، وللقارئ المهتم أن يرجع إلى المصادر التاريخية للتعرف إلى ما تثيره الرواية من أحداث، فقد تطابق أو تخالف الواقع، وقد تكون أحداثاً مختلقة من الأساس.
وبعد… فإن رواية “آلموت” على الرغم من مرور أكثر من سبعة عقود على نشرها، تبقى من أهم الروايات التاريخية، وأكثرها جدلاً، وهي قابلة للحياة إلى آماد بعيدة. وهي بالتأكيد توحي بأعمال أدبية متنوعة، فما زال الطلسم موجوداً يتحدى، وقلعة “عش النسر” شاهدة على تاريخ غامض لم يكشف النقاب عنه بعد.

* كاتب من الأردن

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *