( صادق الصائغ ) تشكيلياً.. متعة التخلّي عن مهابة الحرف




*حسن عبد الحميد

يفرط الشاعر-الرسام(صادق الصائغ) في تبسيط ملاك بنود موهبته التشكيلية اليقظة على نحو ما يعين سلامة الجهد وبراعة الخبرة في توضيح مساعي استنهاضاته البصرية الأخيرة في الرسم وبالأخص المعرض الشخصي المقام على قاعة أكد للفنون-بغداد شباط/2013 التي حاول من خلالها الإقرار بقيم عتيدة وعنيدة استدعت حالات وصور لأحلام يقظة وأخرى لتصورات حسية أصر على ترجمتها بمثول وعي تجسيدي وقصدي تمكن من ملامسة واجتياز حاجز صعوبة طبيعة التعامل الصوري- الإنشائي لقيمة اللوحة المنجزة في أول تماهيات حضورها وصراحة تمظهراتها العيانية على شاشة الكمبيوتر(فوتو-شوب) كنماذج للوحات حية نابضة بوجودها التأويلي ومقومات أفعالها التطهيرية بمجسات الوصول إلى قاع روح(صادق الصائغ) التي كثيرا ما حلقت (محاولات عديدة سابقة) بأجنحة استنجادها بالحرف عبر العزف على أوتار حنينه وتشكلاته النوعية قرابة أكثر من نصف قرن،لكنها-هنا- في قرارة مهابة هذا العرض الاستثنائي المبهر تسعى لان تغور عميقا في مناسيب ثوالث وعي جمالي خالص برع في أن يتمركز في مسالك (الخط/الرسم/التصميم)دون حواجز ومحددات فاصلة جرى تمثيلها بعناية وخبرة وحذر محسوب لصالح تثمين لوامس حدسه التبريري بانتزاع لوحات خاصة قريبة جدا من عوالم وفضاءات (الصائغ) لحظات انتخائه بالحرف نهجا وتعبيرا أضحى معروفا في قاموس وأطلس هذا الفنان المخضرم،بل استدار بجد وجهد واضح نحو تعميد وترسيخ سبل مهارات لعب تضليلي حاذق عبر توريد استمالات نفسية واستجابات حسية جانبت مستويات متعددة للوحة الواحدة من ناحية تبني الفكرة وجرأة الموضوع ودقة المعالجة من أجل الاحتفاظ بقيمة المدلول التشكيلي مع فائض قيمة الحاجة للحرف متمثلا في جوهر التعامل الضمني مع مستلزمات إنتاج وتصميم اللوحة التي كان يصبو إليها الفنان،وما كان يبغي في منح المضمون-إن جاز التعبير-الشفاعة والحجة في تمرير إغواءاته عبر نوافذ إقحام مقومات وعيه الكامل أملا مؤكدا بتحويل الأشكال والرموز والعلاقات وكل ما يساند استثارة السطح التصويري للوحة واستنطاقها بروح عذبة مسالمة وطرية زادت من وهج ألوانه الحارة والصريحة وتناغمها الأمثل مع درجات اللون الأخرى كي تعمق من وجود علاقات وصراعات درامية تواثبت مع نفسها و تنامت بفعل رغبات التحليق في سموات وفضاءات ما كان يطمح ويريد-وهنا أجد أن أعيد مجددا- بأن (صادق الصائغ)في الكثير من أعمال معرضه هذا ظل متمسكا بمهابة التعامل مع تجليات الحرف وعذوبة تطويعه لمرامي ونوايا تلك الاستجابات الروحية والنفسية التي وسمت تجربته-منذ طلائع تمرداته الفكرية والشعرية والتشكيلية- بنوع من المكر الأليف لمخالفة السائد ومجافاة السلفي والمكرور من نواتج وخلاصات من أدمن التعامل الحيثي مع الخط والتصميم بتنويعات وتجريدات تقليدية،لا من حيث الانتباه لقيمة الشرط النوعي الذي تبناه(الصائغ) مدافعا عن وجوده الإنساني، الثقافي والفكري مستلهما بوهج ذلك الخيط السحري الغامض والخلاب معا انساق عوالمه الشعرية،مستوضحا تنويعات مباهجه ومخاوفه،بل حتى استمناءات ذاكرته الانفعالية على هذا النحو الحاني مع انهماكاته الوجدانية التي راح يمهرها بنسج تهويمات وصور ومقاطع من أحلام حرة… وأخرى يقظة… وغيرها حذرة،تباهت أن تجوس أراضي وحقول تلك الذكريات التي غمرتها وتقاسمتها ينابيع الشعر و فضاءات الرسم،بنفس ونسق شهية الطمع الذائب في أتون النظر لكل مفردات وأوجه الجمال في كل زاوية من زوايا العالم،كما لو انه يعيد صدى كلمات ذلك الشاعر الذي قال :
(النظر إلى ظل الأشياء…
أجمل بكثير من النظر إلى الأشياء نفسها.)
وكما لو أنه أن يشيد-أيضا- ببطولة الأشياء وبراءة بعضها هكذا بتلوينات باصرة لروح وشفافية حركاتها التي حاول اجتراحها بمجسات الإضافة تارة وبالحذف المتمرس تارات أخرى،ولعله كان يشحذ عواطفه كي يديم ويبرر حجم حاجته الملحة للجمال والحب والحياة والجدل والأحلام غير القابلة للتفسير،بل حتى للتحقيق،فهو يرسم بروح المطاولة الذهنية ولملمة شذرات استذكارته المستمدة من محتويات ومتممات خزين وعيه المتشكل(شعوريا ولاشعوريا) من عدة نواح وسبل واتجاهات،فيما يميل-نهاية المطاف -لان يقترح زهو أشكاله على منوال استجابات آنية تملأ مكونات لوحاته بمراسيم من أجواء وممارسات لحريات خالصة تصب في مجرى نوازع التعبير وتنويعات تفرده بتحريك مقاصد واستلهام كل ما يجول ويترعرع وينمو في وجدانات تلك الأعمال بخصوصياتها الافتراضية وتسامياتها الرائقة على سطح فضاء مهيأ- تماما- في تبني وقبول أي تأويل يحاذي الفكرة الأساسية التي اقترحتها ذائقة وخبرة (صادق الصائغ) وشرعت بتوريدها،عبر مشاهد لتصورات و رؤى جاءت تجود بتحريك قدرات الطاقات الداخلية للعمل الفني برمته،كون تلك الحركات هي أصلا استعدادات لتضخيم المادة الحياتية متمثلة بنوع وشكل الأحلام وأحقيتها المتاحة بصدق قدرة الفن على تحقيقها بأية صورة كانت، ليس لكونها تطورا ذاتيا لأصل تلك الفكرة بتصوراتها الفنية،بل لكونها-أيضا- تعني بشكل وآخر- عدم وضوح وجود خيط داخلي يصل لأعماق و نهايات ما أرادت أن تبوح به خلاصات تلك الأعمال ،بحزنها وترفها وعموم أوجاعها المعلنة والخفية،إنها بفيوضات وعي تقييمي آخر يقر بكونها تنويعات غنائية لرسومات وانزياحات نفسية باهرة وقادرة على أن (تتماهر) بطي أوراق الكتمان وتجلي البوح بروح مغردة عبر يفاعة اللون واستنفار طاقة التعبير حرا… طليقا … رائقا …يتمرد بها (التحايل) الخلاق على نفسه،بنفسه وهو يهب لها أجنحة ومقومات وضوح وتجسيدات لاهية بتدفقات تصوراتها وعمق استمالاتها لحنين عواطفها،فضلا عن توثيقات (ايروتيكية) وملاحم توضيحية تتجاور فيها الألوان وتلتقي في سواقي ثقافة متنوعة وثرية مشفوعة بوهج فهمها لأهمية صدق وسلامة الأحزان في نسق درامي حان وأثير تجاور في إخلاء سبيل بعض حروفيات (الصائغ) المضمخة بانشغالات انهماكاته السابقة لصالح الاستجارة بليونة وطراوة وسحر الجمل والكلمات… إلا انه جاء ليراهن-هنا- على الرسم خالصا بمكر طفولي ربما متخليا عن بعض مهابة الحرف لصالح قداسة اللوحة بكامل ملاكاتها التخيلية والتجسيدية وهي تحتفظ ببراعة تأثيرها وزهو حضورها المهيب في هذا المعرض.
______________
* (المدى) العراقية.

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *