جسد الرئيس


عزت القمحاوي

 
لم ينل جسد القائد السياسي حقه من الدراسة عربيًا، بالرغم من اتصاله المباشر بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم. وعلى الرغم من تخلف العلم فإن الوعي الشعبي بهذه العلاقة موجود منذ عهد الملك المصري فاروق الذي كان جسده بيتًا واسعًا وغامضًا حوى العديد من الأساطير والحقائق كانت أسبابًا للإعجاب والغضب في الوقت ذاته. وبقدر ما كانت حركة الضباط الأحرار في 1952 انقلابًا سياسيًا واجتماعيًا على الملكية فقد كانت بمثابة الانقلاب على الأرستقراطية القديمة جسديًا.
جاءت أجساد الضباط انقلابًا على جسد الملك فاروق، ببطنه البارز وكتفيه المائلين إلى الخلف ووجهه المكتنز؛ صفات النبل في الجسد الأرستقراطي التي غادرتها أوروبا تدريجيًا خلال القرن التاسع عشر.
وكان جسد الرئيس الأول محمد نجيب بنحافته وسمرة وجهه بمثابة صدمة الانتقال من حكم سلالة الألباني محمد علي إلى حكم المصري. وسرعان ما انكشف موقع نجيب في الثورة التي يقف وراءها البكباشي الشاب جمال عبدالناصر وسرعان ما توارى راعي الثورة العجوز وظهر قائدها الشاب.
جسد عبدالناصر بقامته المديدة وكتفيه العريضين وعينيه الصقريتين وشعره القصير المصفف بتموجات لطيفة كان مناسبًا تمامًا لمرحلة البعث. تمثال جديد لنهضة مصر، بكل ما يمثله من ضخامة وصلابة وانسيابية. مثال من لحم وليس تمثالاً من بازلت.
ولم يكن السادات أقل تناغمًا مع النقلة التي خططها للمجتمع المصري، ليصبح مجتمع استهلاك ورفاه. وهذا المجتمع الذي يصبو إلى البرجوازية سيحتاج إلى سمات النبل الأرستقراطي الحديث في جسد الرئيس: شيء من النحافة واستقامة القامة، إبراز طول العنق، النظرة المسددة للبعيد، الملابس شديدة الأناقة وخصوصًا العسكرية المرصعة بالنياشين والتطريز الحالمة بعرش شاهنشاهي، وكاب يداري الصلع، مع الغليون (آلة التدخين التي توحي بالدعة وفراغ البال).
وسامة مفكر فيها، بعكس وسامة عبدالناصر التلقائية. وهذا الملمح الجسدي يكمل التضاد بين الرئيسين: عبدالناصر المسيطر على قراره السياسي المتعالي على جسده حد الموت شابًا من الإعياء، والسادات الذي يفرط في استقلال قراره السياسي، ويقبض على زمام جسده.
ولكن الرجل الذي انتهى قتيلاً على أيدي المتطرفين كان قد قلب المجتمع رأسًا على عقب، خالقًا دولة القبح بدلاً من دولة الرفاه البرجوازي التي تقدر الأناقة والجمال.
أطلق الجماعات الدينية سياسيًا وأعلى من شأن السمسرة اقتصاديًا فارتفعت الفئات الجاهلة التي لا يعنيها الجمال أو التجمل. وجاء مبارك رئيس الضرورة بقامته الربعة التي أهلته لمدرسة الطيران، لكن بصحته الجيدة ومواظبته على الرياضة كذلك، وكان على المجتمع المأزوم أن يتقبل جسدًا ساكنًا يفتقر إلى رشاقة الخصرين ونبل العنق الطويل، يحمل وجهًا بلا بريق في العينين، وفوق كل هذا يختفي ملبسه في أمان الألوان الأصلية الصريحة: الأبيض والسماوي للقمصان والأسود والكحلي للبدلات.
هذا الحذر الجسدي كان متناغمًا تمامًا مع حذره السياسي؛ فقد أدرك ‘الموظف بدرجة رئيس’ أنه لا يملك كاريزما عبدالناصر التي تجعل كل قراراته معقولة ومقبولة، كما يفتقد مهارة البهلوان التي مكنت السادات من إجراء تغييرات متتابعة في بنية السلطة؛ فركن إلى الاستقرار الجامد.
وعندما انحدر الحكم ليصبح شركة عائلية تتجه للتوريث أصبحت إدارة جسد مبارك وأناقته شأنًا عائليًا كذلك وتزامنت فاعلية القرار السياسي الخطر مع القرار الجسدي التجميلي.
بدأ في الظهور بالماكياج، وفي حملة انتخابات 2005 ظهر في الحوارات التليفزيونية والملصقات بقميص مقلم بلا جاكيت وشعر قصير، مثلما كان دائمًا لكنه مصفف بشكل أفضل مما قبل. وحافظ على هذا المظهر الشبابي في الصور العائلية، وخاصة في صور اللعب مع الحفيد محمد علاء الذي مات فجأة وأخذ معه كل ما تبقى من حيوية الرجل المسن.
تداعى الجسد في الوقت الذي كان الرئيس قد استنفد كل رصيد سلطته المستندة إلى البطولة في الحرب (شرعية أنظمة العصر الوسيط حسب تصنيف ماكس فيبر). وفي اللحظة ذاتها كان المجتمع يتجدد بجيل جديد يعي معنى الحرية بما فيها حرية وكرامة الجسد. وهذا هو الجيل الذي قاد ثورة 25 يناير. وبقدر الاستحقاقات السياسية التي يطلبها هذا الجيل بقدر تطلعه إلى جسد رئاسي يجسد هذه الاستحقاقات ويتناغم معها.
ولا يمكن تحقيق مطالب الثورة الثلاث ‘عيش، حرية، وكرامة إنسانية’ إلا بتأسيس الشرعية الأحدث: شرعية دستورية مبنية على الكفاءة العقلانية.
لكن المفاجأة أن الانتخابات الرئاسية ـ بعد مسيرة من الفبركة والتوجيه ـ أتت بسلطة أقدم من السلطة التي ثار عليها الشباب. جاء محمد مرسي المستند هو وجماعته إلى سلطة الأمس الأزلي المرتبط بالنبوة (أقدم أشكال السلطة على الإطلاق).
وقد عجزت جماعة الإخوان حتى الآن عن إقناع أصحاب الثورة الأصليين بسلطة الماضي الأزلي، ولم تتمكن إلا في نطاق ضيق من تحقيق كاريزما الجسد الرئاسي لجسد مدكوك، بلا تضاريس.
الرأس ضخم غارق بين الكتفين، العينان بحولهما الخفيف فيهما الكثير من القلق والحزن. البطن بارز ولكنه ليس كالبطن الأرستقراطي، وليس في زمنه. الشعر القصير كان يتجه إلى الجبهة تلقائيًا بلا تصفيف في البداية ثم صار مصففًا أخيرًا، واللحية البيضاء القصيرة تحول إهليلجية الوجه (الشكل المعتمد في المخيلة للوجه البشري) إلى الشكل المستطيل. اللقطة الخلفية بما فيها من استواء الرأس بالقفا تعزز المستطيل كذلك.
هو تقريبًا جسد مبارك قبل عشر سنوات ـ عندما قلل من الرياضة وأفرط في الطعام ـ لكن مبارك لم يمتلك يومًا ذلك الامتلاء في الظهر والقفا؛ فهذه البينة تخص أعضاء التنظيمات الإسلامية الذين يأخذون نصيبهم من الدنيا طعامًا عندما تقبل. في الوضع جالسًا كثيرًا ما يتمترس مرسي، تتشبث يداه بالمخدعين، توقيًا لعدو يتحين الفرصة لإزاحته من فوق الكرسي. جلسة لا تخدم طلة الزعامة ولا تعكس الاطمئنان إلى الأحقية بالمنصب.
وضع الحركة أسوأ من وضع القعود. على الرغم من أن الرجل يتحرك بقامة مشدودة وصدر منتفخ، لكنه لم ينل فرصته للمشي المطمئن إلا في الأماكن المحروسة جيدًا: على سجادة الاستقبال في مطار أو أمام مجلس الشورى عند افتتاحه بعد إقرار الدستور.
في الأماكن الأخرى، الحركة متعجلة. وللأسف لا تحتفظ الذاكرة بالعادي بل بالغريب، والغريب في حركة رئيس هو التقهقر والانسحاب الذي اضطر إليه أكثر من مرة وسط جموع الغاضبين حتى المساجد إلى الأمس وغدًا.
عند الهروب يفقد الحرس وظيفته التزيينية والتشريفية ويفقد المحروس هيبته. لكن الأمر لا يقتصر على لحظات الفوضى.
في خطابه بين أنصاره أمام القصر، حضر وانصرف من الخلف عبر فرجة بين رقعتي قماش الخيمة، بينما ينبغي على الرؤساء أن يدخلوا من الأبواب العالية والواسعة.
أثناء اللقاء مع رئيسة الوزراء الاسترالية هرش فخذه فغطت الهرشة على الزيارة، وأثناء المؤتمر الصحفي مع المستشارة الألمانية هرش ساعته، كما أن مشاهد الإفطار الرمضاني على مائدة القوات المسلحة لا تنسى؛ عندما حمل إلى فمه هرمًا من الأرز فوق ملعقته.
وعقب أحداث بورسعيد الأخيرة رفع الرجل إصبع السبابة مهددًا، ورد مئات الآلاف من أبناء مدن القناة بإرعاش أصابعهم الوسطى لقرار حظر التجول. وأصبح قرار الحظر نكتة أخرى من نكات انعدام الهيبة على الرغم من عنف التنكيل بأصحاب الثورة الأصليين الذين يتواصل هتافهم: عيش، حرية، عدالة اجتماية.

* روائي وصحفي من مصر يعيش في قطر

( القدس العربي )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *