وسام زكّو .. الحنين بهواجس الماضي



* حسن عبد الحميد

تنحدر أعمال الفنان التشكيلي (وسام زكو- ولادة بغداد/1955) من سلالات وعي محايد لمعنى فهم تجسيد الواقع حاضرا (رسما ونحتا) عبر متواليات خوض مخاض حنين طاغ للماضي البعيد متلبسا بنزعات حضارية نحو سومر/ بابل/ وأكد ،وصولا إلى مباعث تقاليد كنسية صارمة تحاكي رغبات إنسانية أعمق بكثير من مجرد المرور عليها،عبر تقشير مكامن البحث عن إرث حسمت الدراسات (الاركولوجية) نبل وبراعات همم الإنسان القديم قدم الحضارة نفسها حين لازم (أي الإنسان البطل الغائب /الحاضر في أغلب أعمال وسام) معنى المغامرة باعتلاء صهوة النبوغ الأول لذلك الفهم ، ممتناً لأفضال الطبيعة وإغداقات البيئة عليه وتثمينات محتوياتها في نوازع ومكملات تقدمه،ولأن الحضارة كالأنهر قد تتوقف،لكنها لن تعود إلى الوراء،من هنا- ربما- يستنهض الفنان- المغامر بعض مقومات الدفاع المعنوي عنها (أي الحضارة) ببسالة محمومة عن قيمة ما وهبت وأعطت البيئة عبر تأريخ هبات الطبيعة الوجه الآخر لعملتها،البيئة .

يقول (ديلاكروا) بما معناه؛ إن الطبيعة- بحد ذاتها- تشبه عملا من الأعمال الفنية الرائعة، بعد أن يسطع- طبعا- ثراء الموهبة واتساع المخيلة في توريد ملكات الانتماء لممكنات الطبيعة والدفاع بالفن عن مصائرها وعنفوان وجودها ونصاعة فتنتها وبهاء واقعها.

في معرض اختصار حاذق يقيم (أوكتافيو باث) دور أو واجب المخلية حين يقر: ( بأنها القدرة على الربط وبناء الجسور بين شيء وآخر، لذلك هي معرفة بما هو مناسب)، إيضاح كهذا يلح بان يبقى قريبا من مهام تفسير بعض الحواجز التي يستقدم على تجاوزها عبورا وتعبيرا بالرسم تارة وبالنحت تارات أخرى(وسام زكو) من خلال فهم واجبه وسلامه موقفه وطليعية دوره في جهد وجد تماثل الربط بين هو ماض بعيد نسبيا،لكنه مقرون بهاجس الامتثال و زهو الامتنان عبر مهابة الاحتفاء بالتأريخ السحيق وجذور توريد رموز واستحضارات جزئية ومقاطع متحفية تترجم لتهيئة وحضور حروف من الكتابة المسمارية في توزيع تصميمي يهيمن على حافات لوحاته تتوزع على منوال أشرطة لامتدادات وتصريفات دلالية من شأنها أن تمهد لنا بما يمكن أن نطلق عليها،أو نسميها بـ(المحلية التأريخية) إن جازت التسمية من خلال مهارات اللعب الحر القادر على تنمية وعيه الجمالي في الوصول إلى مساندة لمحات ذهنية نلمحها تراود اجتهادات (زكو) حين يترك فكرة استحضار الغياب حاضرا تضيء وتقابل مساحة فكرة الحضور غيابا من خلال اعتماد الهندسة كتعويض عياني وإجرائي يجد في شكل الهرم والبرج والمسلة والمثلث أشكالا مضمونة في توسيع مدركات الارتقاء بالعمل الفني انفتاحا لمعنى عمق ذلك الوعي الذي يسكن هواجس وملامس هذه التجربة بوضوح انثيالات فنان استنار بالتعبير لغة تحاذي سحر اللون وقوة حضوره و متانة تأثيره بمساعي خطف العين إعجابا وتحاذيا مع نواتج مدركاته بالرسم أو النحت أو الاثنين معا،لذا-هنا- لا أنوي قصدا فك أي اشتباك يسعى لان يفصل (وسام الرسام) عن (وسام النحات) الحائز على شهادة البكالوريوس/هندسة من جامعة بغداد وشهادة البكالوريوس/رسم من كلية الفنون الجميلة ببغداد،كما لا أحاول سحب مجرى متن ما أرادت الوقوف عنده إلا تمهيدا لملامسة محاولاته الجادة والرصينة في مجمل تناولاته محنة الإنسان وتواصل تحديه في جور تماديه بإزاء ما يواجه البيئة و مرادفاتها البلاغية من موروثات الطبيعة من تجاوز و ظلم وطيش وطغيان بشري أخذ بها لما هي عليه الآن من تغييرات واستمالات طائشة طالت أغلب مفاصل الحياة ،وفي مقدمتها البيئة، التي هي أرق هواجس واهتمامات (وسام زكو) ، فراح يرصدها بمنظار اليقظة والخوف عليها حينا والدفاع عن مفاتنها حينا آخر.

وما تراتيل عذابات معرضه الأخير- وهو المعرض السابع في سجل منجزاته الشخصية فضلا عن مشاركات كثيرة وسمت حضوره الراسخ في المشهد التشكيلي العراقي منذ بدايات تسعينات القرن الماضي- الذي أقيم على قاعة (رواق البلقاء-عمان/ الأردن 20/كانون أول/2012) إلا تأكيد ضمني وفهم متواصل وعميق لمعنى اقتراح متقاربات حسية وسمات دلالية سعت لتقابل نواتج فعل جمالي راح يقاوم بالرسم تدرجات نزعات حدسية،استطاع إلى جانب النحت استنهاض مهابة وقوة أثر الفعل وتوالي تدفقاته التجسيدية عبر تصارعات الكتلة مع هيمنة الفراغ ،مما زاد من بلوغ أثر قيمة غياب اللون و محصلاته البنائية،في ما يخص أعمال (النحت) وهي الأهم في ظني وتقديري من نواتج (الرسم) التي أضحت-هنا- مجرد خلفيات(بك- راوند) لمجمل خلاصات معرض لم يحمل أي اسم أو عنوان يؤشر أو يشير لمقاصد إعلانية وتصريحات مجانية تلعلع كي تدعي الحفاظ أو الدفاع عن البيئة دون حراك عملي،كما فعل الفنان بفضح مواقف الإنسان وتجنيات فوضى نزقة وتيهان مجهودات ونوايا تمرده بإزاء ما لحق بالمحيط والبيئة من مخاطر،أرادت أن تؤطرها خوالص هذا العرض مستندا للكثير من مقومات البحث والرصد الحاني والمشفوع بدواعي استلهام تناوبات حالات الهدم والبناء،والإضافة والحذف متناغما،متساوقا مع انزياحات التهشيم والثلم والتكسير لإقامة منافذ وثقوب تتماثل بعشوائية- مقصودة نجحت بفرض سطوة السكون وتدفق حيوية الحركة عبر تصدعات وخروق تصادمت في خلق علاقات درامية شاخصة في قدرة تبنيها لمعنى تفويض الألم ولغة الأسى والتسامي بالفن معادلا موضوعيا في تذوق لحظات الجمال وأبدية الإحساس بامتلاكه على نحو من الحنو الذي لمسناه في تقريب مهابة النحت كما في الرسم عند (وسام زكو) الذي جعل منه وعاء ومحتوى لقيمة التأريخ الذي سعت لتنشد بعض أوجاع حنينه خلاصات ذلك المعرض محتفيا بتوسيع حشود وممرات والتواءات وأخاديد تمتلئ بفيوضات ألوان حارة وصريحة تحتمي بممكنات اللصق(الكولاج) ،فيما يتنازع النحت مرهونا بوعي مغامرة برعت في تجسيد مغايرة الحركة والفعل،ومن ثم توالي مجموعة أفعال بشرية لخصت محاولات الإنسان في مقاومة دفع صخرة تفوقه قوة وحجما،لتعطي منحى دراميا متآخيا مع قوة الإثارة والمواجهة،بما توحي زاويا نظر أخرى من أن إنسان (وسام زكو) في رهان منحوتاته الأخيرة هو يتابع ويصبو لفكرة الخلاص وتلافي مطاردات قوى خارقة تتماثل بشكل صخرة مربوطة بحبال وأسلاك لا يستطيع الفكاك منها إلا بالهرب ومقاومة ثقل كوابيسها وتصدعاتها بكم توالي نوبات الملل وتفاقم التكرار، بفعل عدم متكافئة ميزان العلاقة ما بين الإنسان والصخرة التي ليس لها-هنا- أية علاقة بصخرة سيزيف ومرجعيتها الأسطورية،بعد ارتهان مقوماته التعبيرية وملامسات تجريدية بآصرة لدورها في اعتماد دور دوال ذلك التأريخ المحلي من مسلات/هرمات/ لقى/الآثار/ وكتابات وسمت سمة الاعتراف المعرفي قيمة الحرف المسماري ومباهج حضوره النفسي والجمالي،وبما يعزز ثقة (وسام زكو) بالماضي أكثر بكثير من ثقته الحاضر،ربما من باب كون الماضي قد تم اختباره وفحصه في مختبرات الزمن وامتلك صلاحية التعبير والوثوق بمقدراته،وأظنه (أوسكار وايلد) هو من قال؛ أجمل ما في الماضي أنه مضى.

* (المدى) العراقية.

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *