ثلج …!


عباس بيضون

فجأة نزل الثلج. امتلأ الفضاء بنفنافه. عالم من الفتات الأبيض، إنها السماء تتقشر فوقنا، كان البرد جامداً وأخرس وقاسياً، وها هو الآن يتفسخ. ها هو الآن يتحرك ويتشقق ويثمر. انه ينمش وها هي قشوره تملأ الجو، تحط بصمت على الأرض والمارة وتختفي بصمت. تتقافز مع ذلك بمرح وتلعب بمرح وتذوب بمرح. أنا وعيسى مخلوف نرى معطفينا وقد ترقشا بالبياض. كنا في الشارع هكذا كأشجار العيد.
كنت في باريس لثلاثة أيام. الوقت من ذهب، الوقت من جليد، وينبغي أن نقطعه حصصاً، وصلت مساء وفي الليل ذاته عقدت موعدين مع عيسى وهدى أيوب، وعدت تحت الثلج إلى غرفتي في الفندق، علبة في الطابق السابع بحيطان مائلة. تساءلت لم الحيطان مائلة لكنني انتبهت إلى أنني هكذا لن أتوقف عن التساؤل، فكل شيء وله سؤاله.
حدثتنا مارتين غريل مديرة برنامج حسن الغريب الذي اشتركت فيه مع اثني عشر كاتباً وكاتبة من لبنان عن معرض لفنان صيني هو يومنجن في مؤسسة كارتيه. برنامج حسن الغريب ألغي وخلاله التقت مارتين بيومان حائز نوبل لهذا العام وبالطبع قرأت رواياته وأعجبتها. يومنجن هو تقريباً يومان الرواية. مثل يومان بقي في الصين ومثله لم ينشق عن النظام ومثله ينتقد من الداخل. مارتين نصحتنا أنا وإيمان حميدان وكنا معا في لقائها بحضور معرضه الذي لم يكن بعيداً عن جادة دومان حيث التقينا. ذهبت بصحبة إيمان إلى مؤسسة كارتيه لحضور معرض «ظل الضحكة الجنونية». المعرض يجري على تقنية واحدة تقريباً وتيمه واحدة. اللوحات التي بين التصوير والكاريكاتور، بل هي أقرب إلى الكاريكاتور تكرر رسم عدد من الأشخاص متماثلين في وجوههم وملابسهم وضحكاتهم. إيمان قالت ان هذا التماثل ليس كاملاً فلو تمعنا لوجدنا فارقا بين كل شخص وشخص. المهم أن هؤلاء الأشخاص المصطفين في أوضاع تختلف من لوحة إلى لوحة يفتحون أفواههم على وسعها تقريباً ويطلقون ضحكات هائلة، ليس منجن رسام كاريكاتور فحسب رغم ان هذا مبدأ رسمه. لوحاته الضخمة أكبر من أن تؤدي رسالة كاريكاتورية وتكرار تيماتها بل وكناياتها تجعلها في تسلسلها وتتابعها قريبة من الصور المتحركة، ليس هذا فحسب بل إن هذه الشخوص الجامدة المتماثلة الفاتحة أفواهها المصطفة وراء بعضها تبدو في أوضاعها تلك ملغوزة، بل يتراءى انها متصنمة مسكونة ببعد ميتافيزيقي مثلها في ذلك مثل مانيكانات شيريكو. بل انها في تماثلها وتكرارها تبدو أشبه بشخصيات آلية ذات لغز ميتافيزيقي. لا يخفى علينا بالطبع النقد السياسي الكامن فيها. هذا التماثل هو الشخص المعمم الذي تربيه الشيوعية الصينية، الشخص الذي يملك بعده الواحد فحسب كما يقرر هربوت ماركوزة. انه صنيعة مجتمع حزبي بيروقراطي يتحول فيه البشر إلى آلات حزبية ونماذج متصنمة وبالطبع مسوخ من نوع ما، النقد السياسي في رسوم منجن يحيلنا على الوحشة الميتافيزيقية والانزلاق الوجودي والمسخ التي هي الاستعارة الكافكاوية للمتاهة البيروقراطية. في واحدة من لوحات منجن نجد رأسا مقصوصاً من أعلاه على هيئة مسبح يخوض فيه رجل هو ماوتسي تونغ نفسه، يحتل ماوتسي هكذا عقل الإنسان ويتحكم فيه، اما الضحك فليس دائماً ضحكاً بل نحن نشعر أنه محبوس رغم انفتاح الفم على وسعه. أن تماثل هؤلاء الضاحكين في كل شيء، في الملامح والملابس يحيل الضحكة إلى ضحكة شعائرية. رغم تكرارها فإنما تضيع تماماً في التماثل والتكرار. الفم المفتوح على وسعه يكاد يختنق بضحكته. هذه الضحكة لا تحيل على الفرح بل على الفراغ بل على الآلية. انها بالتأكيد بلهاء ومريضة بل نحن في بعض اللوحات لا نشك انها هستيرية. هكذا تدخل لوحات منجن في نوع من الضحك السيريالي. بل نحن نجد هذه السيريالية ماثلة في ذلك الرجل المقطوع الرأس وهذا الرجل الذي يهرع مسرعاً حاملاً رأسه المجنون ضحكاً بين يديه. نحن هكذا امام سيريالية الأحلام او الكوابيس. الغريب ان لعنة التماثل، وهي حقا لعنة، لا تنفك إلا في اللوحات التي تمثل جيلاً جديداً ففيها نجد الأشخاص وقد تغايروا في وجوههم وملابسهم.
انقطع الثلج. لكن البرد استمر وحينما ذهبت أنا وعيسى إلى الغران باليه لرؤية معرض ادوار هوبر الفنان الأميركي كان عليّ أن أنتظر في برد رخامي نفاذ لم يتشقق عن مطر أو ثلج، وبقي مطبقا على الناس الذين وقفوا في فناء الغران باليه يستمعون إلى فرقة موسيقية، فيما صعد عيسى الذي يحمل بطاقة صحافية تؤهله لحضور المعرض إلى فوق ليجلب لي بطاقة حضور. ونحن صاعدان شاهدنا صفاً طويلاً للغاية أمام شباك التذاكر. كان هناك عشرات بل مئات داخل الغران باليه بحيث كنا نرى اللوحات من فوق رؤوسهم. شاهدت معارض في معرض، ورأينا نموذجاً حقيقياً لفن المعارض. شاهدنا صوراً لنيويورك ايام هوبر. شاهدنا لوحات لفنانين أميركيين أثروا في هوبر اثناء نشأته الفنية وأشرفوا على تعليمه، ثم لوحات لفنانين الذين أثروا في هوبر او تقاطعوا معه. رامبرانت، تيتيان، واتو، فان غوغ، واتو، كوربيه، شيريكو. ثم صور المصورين الفوتوغرافيين الذين استلهمهم هوبر الذي كان شديد الانفعال بالتصوير الفوتوغرافي. وبالطبع ضم المعرض فن هوبر في مراحله كلها، من رسومه التزيينية يوم كان يعمل في الرسم للصحف وأغلفة الكتب، فالمرحلة الأوروبية والمرحلة التي خلصت للفن الأميركي الذي بات أحد مؤسسيه، وبالطبع لم يكن هذا الترتيب اعتباطيا. انه متسلسل ينبع فن هوبر حلقة بعد حلقة ويتوقف عندها، فضلاً عن الرسوم، بالكلام، فلا يخرج المشاهد من المعرض إلاّ بفكرة شبه كاملة عن ادوارد هوبر وفنه.
رأينا فن هوبر كما سبق ان قلت من فوق رؤوس المشاهدين. كانت كثرتهم وحشدهم وتجمعهم امام اللوحات أمور تشوش الفرجة التي كنا نسرقها من فوقهم. لم يكن في وسعنا لا أنا ولا عيسى الانفراد باللوحات او الإصغاء اليها وكنا ننتقل مع الحشد في صالات الغران باليه. مع ذلك لم يفت عيسى ان يعلق على بعض اللوحات وان أفعل أنا مثله. فن هوبر يتصل بكل مناحي الحياة الأميركية التي تجسمت في وقته: الطرقات، الخطوط الحديدية والقطارات، البارات، المؤسسات والبيروقراطية. جسر بروكلين، مارلين مونرو. البيت وبخاصة كرواك في كتابه على الطريق. لكن فن هوبر لا يعكس فقط الحياة الأميركية، انه يتناولها ليس بفظاظتها الواقعية فحسب، بل يتناولها كاستعارة رمزية واقعية انه يحول هذه الحياة على الطرقات وبين محطات البنزين وفي المشارب الى أسطورة خاصة. شخوص هوبر يبدون بقدر من العزلة والانفراد داخل هذه الديكورات التي تمثل الواقع الأميركي، وتحت هذا الضوء الصلب والمتساوي والمستقيم الذي يشعر أكثر بوحشتهم وانفرادهم وتفكك العلاقات التي تجمعهم، فهم وحيدون في محيطهم وبين أناسهم، وحيدون مع عملهم وأوضاعهم، وفي الكتيب الذي هو البوم المعرض نقرأ أنه من المغري تأويل فن هوبر على أنه إدراج للأساطير القديمة في عالم حديث.
كان عليّ أيضاً ان ألتقي أصدقائي في باريس في مكتبة ابن سينا لهاشم معاوية. هكذا جلست مع كاظم جهاد وبشير هلال وحسن الشامي وبالتأكيد هاشم نفسه فالمكتبة هي موعد دائم للأصدقاء.
استقللت القطار من باريس إلى نانت التي سافرت إلى فرنسا بدعوة من بيت الشعر فيها. يمكنني ان أتكلم عن شعرية القطار فيما تبدو الطائرات وقد فقدت شعريتها. لقد غدت مع الوقت مبذولة وميسرة وعامية إلى حد. لم يعد لها خيال بساط الريح وحلم الطيران. انها تختفي في الغيم ونختفي نحن فيها. القطار تبقى له شعريته التي نستمد بعضها من الروايات والأفلام السينمائية. عندما وصلت إلى نانت وجدت مجالي برازيل مديرة بيت الشعر (غريب هو اسمها) تنتظرني على المحطة. كان عليّ ان أواجه لقاء إذاعياً مع راديو محلي، ذهبت وأنا مستخف باللقاء. لكني وجدت مجموعاتي الثلاث بالفرنسية بين أيديهم وقد نقبوا فيها مع قرائها باهتمام. الأسئلة التي طرحها ميشال تناولت قصائد بعينها، لكن أسئلة لوران ماريشال انصبت على خاصيات الشعر. كانت مسألته هي تزاوج الأفكار والتجريد مع ملموسية الصور وتجسيدها.
في الصباح، وجدنا الثلج يغمر المدينة. لقد نطق البرد أخيراً. اخرج ما في جوفه وبصق في وجوهنا مقالته البيضاء. تشقق البرد وأفرز كل هذا البياض الذي بدأ يتشرب التراب ويمازجه ويتلون به. كان الثلج يتفتت تحت حذائي وأنا اسمع، من مكان ما في جلدي، صوت تفتته. كان بالأحرى ينسحق من دون صوت وكنت اسمع في مكان ما من رأسي انسحاقه المعدوم الحس والصوت. سرت في صحبة لوران مارشال إلى محطة القطار حيث بدلنا بطاقة إلى ماسي ببطاقة إلى المطار، الذي من نافذته شاهدت الطبيعة المتكلسة والنوم الأبيض والصمت الأخرس الذي يحط على رؤوس الأشجار.

 

( السفير الثقافي )

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *