الرومنطيقية السوداء معرضاً تشكيلياً من فرانكفورت إلى باريس: ثورة الإحباط على الثورة




* ناهد نصر

في أيام قد تشبه من قريب أو بعيد أيامنا هذه، وبعد ثورة هزت النظام الاجتماعي والطبقي بشعارات الإخاء والحرية والمساواة، بدأت من فرنسا وانتشرت بأقصى سرعتها إلى أرجاء أوروبا، شهد العالم أياما أخرى خضبها الدم والرعب والقلق من المستقبل، واهتزت فيها قيم الثورة أمام أهوال الحروب، فانقلب الأدباء والفنانون على كل ما هو مثالي وعقلاني ومتوازن إلى عوالمهم الداخلية ينبشون خيالاتهم وأحلامهم، ويجترّون الأساطير ليعكسوا حالهم وحال العالم الذي بدا أكثر عبثية من أن يضبط إيقاعه العقل الواعي.
هذا ما يدور حوله معرض “الرومنطيقية السوداء: من غويا إلى ماكس ارنست” الذي يستضيفه في آذار المقبل متحف أورسي الباريسي على مدى ثلاثة أشهر بعدما ودّعه متحف “شتادل” بفرانكفورت في 20 كانون الثاني الفائت. يضم المعرض 200 لوحة ومنحوتة فضلاً عن صور فوتوغرافية ومقتطفات من أعمال سينمائية لأكثر من 70 فنانا من أنحاء أوروبا، تعكس جميعها الوحدة والحزن والعاطفة والموت، والافتتان بالرعب ولا عقلانية الاحلام، وتقدّم أدلة دامغة على كمون السوداوية في قلب التيار الرومنطيقي في فترات تاريخية مختلفة ومتلاحقة. فالرومنطيقية السوداء التي ولدت في الستينات من القرن الثامن عشر، تواصلت حلقاتها في حقب تاريخية لاحقة واجه العالم خلالها ظروفا شبيهة من الاحباط وخيبة الأمل.
الكاتب والمؤرخ الايطالي ماريو براز كان أول من لفت إلى هذا الجانب الداكن في الحركة الرومنطيقية في ثلاثينات القرن العشرين من خلال كتابه “اللحم والموت والشيطان في الأدب الرومنطيقي” 1930 الذي صدرت نسخته الالمانية 1963 بعنوان “الحب، الموت والشيطان. الرومنطيقية السوداء” الذي اشتق منه الاصطلاح. في لرأي الكاتب أن الرومنطيقية السوداء انبثقت بظهور سلسلة من الروايات الهبت خيال القراء وفتنتهم بأحداثها المروعة، سرعان ما ألهمت التشكيليين في انحاء اوروبا، يتقدمهم غويا وجيريكو بأعمالهما التي صورت وحشية الحرب، وهنري فوسيلي ودولاكروا اللذين حوّلا الاشباح والسحرة والشياطين التي ظهرت في أدب ميلتون وشكسبير وغوته مواضيع لأعمالهم الفنية، وكذلك غاسبار ديفيد فريدريش وكارل بليخين اللذين صورا مصير البشرية القاتم من خلال عوالمهما الغريبة والملغزة التي تستوحي الجانب المظلم من الطبيعة.
بعد الثورة الصناعية الثانية في النصف الثانى من القرن التاسع عشر، عندما بدت فكرة التقدم وهمية وغير جديرة بالثقة، التقط الكثير من الفنانين تركة الرومنطيقية السوداء واستعادوا الاساطير والاحلام ليضعوا الانسان وجهاً لوجه أمام مخاوفه وتناقضاته، فظهرت القصص المرعبة لإدغار الن بو، وباربي دورفي، كما ظهر في الفن التشكيلي سحرة وهياكل عظمية وشياطين وقتلة على حين غرة لقتل الأمل الذي بدا أنه يتبدد بقسوة في الواقع. في نهاية الحرب العالمية الأولى ظهرت الحركة السوريالية التي اتخذت من اللاوعي أساساً للابداع ليضع السورياليون اللمسات الأخيرة على روح الرومنطيقية السوداء.
يتناول المعرض موضوع الرومنطيقيية السوداء في سياق جغرافي وزمني شامل، متتبعاً تطوراتها الايقونوغرافية المعقدة كمحاولة لفهمها بعمق. المعرض مقسم سبعة أجزاء تبدأ بلوحة “الكابوس” لجون هنري فوسيلى التي يعتبرها النقاد ايقونة الرومنطيقية السوداء، حيث عكست ابرز معالم اسلوبه في استلهام عناصر الخرافة الشعبية والكوابيس في اجواء ايروتيكية مثيرة للإكتئاب. لغته المبتكرة أثرت في عدد كبير من التشكيليين أبرزهم وليم بلاك الذي يقدم المعرض لوحته “التنين الاحمر العظيم” للمرة الأولى في أوروبا منذ عشر سنين.
القسم الثاني من المعرض مخصص لستة اعمال للفنان الاسباني فرنشيسكو غويا من بينها “طيران الساحرات” و”اكلة لحوم البشر من بيزانسون” تتضح فيها معالم اسلوبه في كسر الحواجز بين الواقعي والخيالي، الذي اثر في عدد ضخم من التشكيليين في فرنسا وبلجيكا من بينهم دولاكروا وفيكتور هوغو وجيريكو وأنطوان ويرتز.
تتصدر أعمال الفنان الألمانى كارل بليخين القسم التالي، وهو المعروف بقربه من غويا ودولاكروا بأسلوبه المغرق في الشهوة والكآبة، وكذلك تأثره الواضح بالكاتب ارنست هوفمان من خلال لوحته “الاب ميداردوس” بطله المجنون في رواية “اكسير الشيطان”. ثلاث لوحات للألماني غاسبر فريدريش تبرز فيها مقابر مفتوحة وخرائب مهجورة وسفن تقودها ايد خفية وغابات واخاديد وحيدة وقاتمة، من بينها “سفينة بكامل اشرعتها في البحر العميق” تتبدى فيها حال الصمت القهري التي تميز اسلوبه، والتي مهدت لفكرة الرمزية التي تقدس الصمت وتعتبره نموذجاً مثالياً للتواصل بين البشر، وهذا ما تعكسه بوضوع لوحة اديلون ريدون “العيون المغلقة”.
ينتقل المعرض إلى الحركة السوريالية التي أسسها اندره بروتون والهمت الفنانين امثال ماكس ارنست وسلفادور دالي عناصر عالمهم التصويري العجيب المستند إلى مخزون اللاوعي، حيث تعكس لوحات ارنست ومن بينها “منظر مستوحى من رؤية ليلية لميناء سان دوني” ما دعا اليه من تحطيم الحدود بين ما يعرف بالعالمين الداخلي والخارجي.
على رغم أن المؤرخ الفني كارل اينشتين يعتبر السورياليين خلفاء الرومنطيقيين، فإنهم كانوا بعيدين عن فكرة اعادة عناصر تركة الرومنطيقية السوداء بالأدوات والعناصر التصويرية نفسها، إذ كانوا منفتحين على الوسائط الجديدة كالتصوير الفوتوغرافي والسينما، حيث صارت الأفلام إحدى أهم حلبات الرومنطيقية السوداء في القرن العشرين ومن بينها افلام فرانكشتاين ودراكولا وفاوست و”فامباير” و”العربة الشبح” التي يقدم المعرض مقاطع منها.
أهمية المعرض أنه يلقي الضوء على اتجاه فني شمل عددا كبيرا من أهم فناني أوروبا والعالم، وربطه بسياقه التاريخي والثقافي والاجتماعي، لكن توقيته لا يخلو – ربما من قبيل المصادفة- من اسقاط على واقعنا الحالي، وإن اختلف السياق الجغرافي.
*صحافية مصرية
– جريدة النهار

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *