اللون والعقل واللغة مراكز في الدماغ تضيء مثل المصباح


* ساطع هاشم

نفتقر إلى وجود أية دراسات جادة مهنية تعالج قضية تاريخ اللون في مجتمعاتنا وتأثيره على تكوين عادتنا وتقاليدنا ونظرتنا للحياة وكيف تجسدت في انتاجنا الفني واللغوي وصناعاتنا التطبيقية الغنية والبعيدة في جذورها ، رغم أن استعمال الانسان للاصباغ الملونة حضاريا بدأ في بلادنا بعد مروره بآلاف التجارب بالاخفاق والنجاح في مناطق أخرى من العالم منذ اكتشاف النار وحتى أواخر العصر الحجري الحديث واختراع الكتابة. 

ترجع معظم مفاهيم الانسان الحالية عن الألوان إلى الدور الكبير الذي لعبته نظرية نيوتن في تحليل الضوء وإلى النظريات العلمية التالية الأخرى التي أدت دورا كبيرا في تقدم تكنولوجيا الأصباغ وصناعة الأجهزة الضوئية الحديثة. وكان نيوتن قد نشر بحثه التفصيلي في علم البصريات سنة 1704 ، لكنها لم تؤدي دورها العملي إلا بعد انطلاقة الثورة الصناعية بعد ذلك بمئة عام. ومنذ أوائل القرن التاسع عشر وإلى الآن فأن الأبحاث العلمية في علم الضوء وعلوم البصريات وتكنولوجيا تصنيع الأصباغ ، قد توسعت وتعمقت إلى درجة لايمكن لأي فرد أن يدعي بأنه قادر على استيعابها ، فهي نتائج لجهد جماعي جبار للأفراد والشركات والمؤسسات العلمية حول العالم والتوسع الهائل في إنتاج البضائع والسلع المختلفة للانسان الحديث.
فيزياء الجسيمات
تنتشر عندنا آراء غير دقيقة ولا تستند إلى التجربة والدليل فيما يخص مشكلة اللون التاريخية والاجتماعية والتقنية أو التعبيرية في حياة الناس ، وإذا كنت سأعذر أصحاب الآراء القديمة التي تنتمي إلى زمان غير زماننا وإلى أوقات وظروف ثقافية واجتماعية وسياسية غير ظروفنا الحالية ، حيث لم يكن مستوى التعليم مثله الآن ولم تكن الانجازات العلمية والتكنولوجية العالمية على هذا المستوى من التأثير الدولي الشامل ،وقيلت في زمان آخر ، ومن قبل أفراد كانوا غارقين في عبادةالماضي ورموزه وإنجازه وفردوسه المفترض ، ولم يكن المستقبل يخطرعلى بالهم إلا بصورة قبور للزيارات ، بينما كان الناس في العالم الصناعي المتطور يضعون أسس فيزياء الجسيمات التي أصبحت علما قائما بذاته رسميا سنة 1975 وتهز العالم الان بانجازاتهاالجبارة، فأني لا أستطيع أن أفهم تكرار تلك الآراء ونحن نعيش في عالم نرسل به رسائلنا ومقالاتنا بسرعة الضوء ، وحيث دخلت العلوم المتنوعة في صلب تركيبنا النفسي واللغوي والمعرفي شئنا ذلك أم أبينا ، ولم نعد نستطيع العيش وتدبير شؤون معيشتنا بدون علوم تمكننا من استعمال أجهزة الكمبيوتر والفيديو والموبايل وغيرها الكثير ، وقد سبب لنا هذا التطور العلمي والتكنولوجي الكثير من المشاكل أيضا ، لكنه من جهة أخرى جعلنا ننظر إلى ذواتنا وتاريخنا وأفكارنا بشكل مختلف وأجبرنا على إعادة النظر بكل معتقداتنا وأساليبنا وطرقنا في التفكير والتخطيط والتعبير لأيجاد حلول لمشاكل تخص جوهر وجودنا في هذا العالم اليوم ، فلم تعد هناك بعد اليوم أية امكانية لفصل الثقافتين العلمية والفنية أو الأدبية ولابد من ايجاد وسيلة لتوحيد هذين الطريقين في أدمغتنا وذلك بتجريب مصادر متنوعة بهذا الاتجاه أي ربط الفن بالعلم ، أو البحث الجمالي بالبحث العلمي ، وهناك الكثير من هذه النظريات المنتشرة حاليا بالعالم والمعدومة في بلادنا ، منها مثلا نظرية البروفسور سمير زكي ، ولد في انكلترا من اصل لبناني » مصري ، وهو مختص في علم تشريح ووظائف الدماغ ، وقد عملت معه فترة عندما كان يخطط لاقامة معرض يجسد آخر أبحاثه في فسيولوجيا ووظيفة العقل البصري لكن الداعمين للمشروع توقفوا عن تمويله فألغي.
البروفيسور زكي
يقول البرفسور زكي ومعه الباحثين في هذا المجال واعتمادا على آخر التجارب المختبرية التي أجريت في السنين الاخيرة ، بأن هناك مراكز حركة معينة خاصة بالانفعالات والأحاسيس في الدماغ تقوم بالإضاءة تماماً كما يضيء المصباح الكهربائي كلما وقع بصرنا على أثر أو عمل فني ، وبسرعات وردود أفعال تختلف حسب قوة التعبير في العمل الفني موضوع النظر..ويتسائلون من خلال أبحاثهم كيف تحدث الانفعالات المختلفة التي تولدها الأعمال الفنية ، على اعتبار أن الفن هو النشاط الإنساني الذي يخلق الأشكال او الأصوات أو الكلمات التي تجسد المشاعر وتعبر عنها؟ هل أدمغتنا هي التي تحدد الكيفية التي يؤثر فيها الفن علينا؟ هل الدماغ البشري بوظائفه اللا إرادية هو الذي يقرر بأن لوحة الموناليزا مثلا هي لوحة عظيمة؟ ماذا يحدث داخل المخ عند وقوع النظر على شئ جميل ، وتتأثر الأعصاب به؟ أو خذ النظرية العراقية»العربية الوحيدة في هذا المجال واقعية الكم للفنان الراحل محمود صبري والتي هي بالواقع تنتسب إلى العلم وإلىالفن في وقت واحد، ففيها يتعامل الفنان مع الطبيعة من خلال هارمونيا الطبيعة نفسها ، لأن العلم يقول بأن كل موجود بالطبيعة والكون الفسيح عبارة عن مركبات لمواد كيميائية يعجز الانسان عن احصائها ، وأساس هذه المواد تسمى العناصر الكيميائية وعددها 92 عنصرا ، مثل الهيدروجين والاوكسجين والكربون وغيرها ، وقد تم ابتكار طريقة علمية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لمعرفة هذا العنصر أو ذاك من خلال ألوانه ، وذلك بتسخين المادة التي يراد معرفة خواصها باستعمال مسخن عرف بأسم مصباح بنسن اخترعه ميشيل فرداي وطوره بيتر ديسديكا وأطلق هذا الاسم عليه مطوره ديسديكا وهو أحد تلامذة العالم الكيميائي الالماني روبرت بنسن تقديرا منه لأستاذه وهو أهم أجهزة ذلك القرن في التحليل الطيفي ، أما الآن فيستعمل في مختبرات المدارس الابتدائية وبواسطة نتائج البحث باستعماله توصل علماء ذلك الزمان في سنة 1859 إلى اكتشاف الصوديوم بالشمس ، وتوالت الاكتشافات في هذا المجال حتى يومنا هذا ، حيث لكل عنصر بالطبيعة ألوانه الخاصة أو خطوط الطيف اللوني للعنصر أو الخطوط الموجية للعناصر وألونها متناسقة بشكل هارموني مدهش ، بحيث أن الفنان الذي يعتمد على استعمال التركيبة اللونية لأي عنصر من عناصر الطبيعة سوف لن يكون بحاجة إلى التفكير كثيرا في ترتيبها الهارموني ، لأنها جاهزة هناك. ولكي أوضح ذلك اكثر سأعطي المثال التالي وبأمكان أي شخص يقرأ هذا المقال على جهاز الكمبيوتر تجريبه بنفسه وذلك باستعمال برنامج Paint- الموجودعلى جميع أجهزة الكمبيوتر أو باستعمال بضعة أقلام ملونة وورقة السيليكون ترتيبه رقم 14 في جدول العناصر عند تسخينه فأن الألوان الأكثر حساسية التي تنبعث منه وتبدو أمام عين المشاهد ثلاثة ألوان حمراء بتدرجات مختلفة: لون أصفر واحد لون بنفسجي واحد ا،لآن إذا رسمت خمسة خطوط حمراء بشكل أفقي ، وتحتها لون أصفر واحد وتحته لون بنفسجي واحد ، فسوف ترى الانسجام الكامل بين هذه الألوان السبعة ، وكأنها موسيقى ، وإذا كررت هذه التوليفة عدة مرات كل سبعة ألوان بجوار الأخرى ، فتكون قد رسمت لوحتك الكمية الأولى وشعرت براحة الألوان في بصرك ، وعرفت شيئا جديدا في العلم..
* عن صحيفة ألف ياء العراقية.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *