” سيدات زحل” للطفية الدليمي..سرد للوجع العراقي المستديم



* شكيب كاظم


يعيب بعض النقاد والباحثين على الأدب إجمالاً، والقصة والرواية والشعر تحديداً ضعف تفاعلهم مع صروف الدهر وتقلباته التي تعصف بمجتمعاتهم، وإن هذا التفاعل قد يأتي-إذا أتى-متأخراً، وكأن الأديب الكاتب يعيش في برجه العاجي العالي، بعيداً عن مجريات الحياة وأمورها، لكني أرى أن الكتابة الأدبية والذي يعنيني هنا، السرد الروائي، قد واكب العصف الذي إجتاح الحياة العراقية، ولاسيما ما حصل في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الذي هو نتاج مدمر للسياسات الخاطئة التي دمرت الحياة في العراق، ومنذ أواخر العقد الخمسيني، فلقد كتب أحمد خلف وحنون مجيد وطه حامد الشبيب وميسلون هادي وتحسين كرمياني و سعد محمد رحيم وكثير غيرهم، أعمالاًَ روائية استلهمت الشأن العراقي العاصف، ولتأتي الروائية العراقية المبدعة والكاتبة الرصينة لطفية الدليمي، لتضيف بروايتها (سيدات زحل) الصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع بعمان، لتضيف إضافة مميزة إلى فن السرد العراقي، ولتضيء العتمة التي لفت الحياة العراقية منذ عقود، وخاصة بغداد، مستلهمة تأريخها واقفة عند مثابات شاخصة ومهمة من حياتها، منذ أن أذِنَ الخليفة أبو جعفر المنصور للمهندس الحجاج بن أرطأة لتخطيط المدينة التي يريدها عاصمة لمُلكِه، لكن ابن أرطاة لسوء تدبير وقلة ذوق وفهم، يرش رماداً على المخطط الهندسي وينثره، كي يجعله أكثر وضوحاً للرائي، لكن منظر الرماد وهو يغطي المدينة، أفزع المنصور، أتكون عاصمة المنصور رمادا، أستكون وبالاً على ساكنيها؟ إذن فلنجد حلاً، ولكن الحل جاء ضغثاً على إبالة جاء- ايضاً لقلة تدبير ولعله لنحس طالع- ليزيد النار حطباً، أمر المنصور، بوضع القطن على تضاريس المخطط ثم أمر بالزيت، ثم أشعل النار، ليجسم المشهد، مخطط المدينة العاصمة، لكن ياللهول، المدينة تحترق وتشب فيها النيران، أكان عمل المنصور إرهاصاً بالذي سيحصل لهذه المدينة من نكبات على مدى اكثر من أربعة عشر قرناً، وللبلد الذي أصبحت عاصمة له؟
الرواية، (سيدات زحل) سرد موجع لوقائع الحياة العراقية، وقد استخدمت الروائية المبدعة لطفية الدليمي تقنيات السرد الروائي باقتدار، كي تتمكن من تقديم عمل روائي جميل، يقرأ بمتعة وشغف، ممتزجة بالدمع الهتون، ويمتد إلى اكثر من ثلاث مئة صفحة، استخدمت الروائية فن تيار الوعي، الذي كتب به جيمس جويس، وأزدهى على يد فرجينيا ولف، كما أنها زاوجت بين سرد الواقع، وبين الفانتازيا والغرائبية السحرية، ترى أليس الواقع العراقي يشبه الفانتازيا والفانتازيا الفاجعة تحديداً؟!! كما أنها إستفادت من قراءات معمقة في التأريخ العراقي الموغل في القِدَم والحديث والمعاصر وحيوات متصوفة بغداد: عبدالجبار النفري وابو المغيث الحسين بن منصور الحلاج وعوالم السحر والأبراج وإنعكاساتها على حياة البشر، أوليس الرواية اسمها(سيدات زحل) برج النحس والشؤم؟!
ظلت الروائية لطفية الدليمي، تشتغل على ثيمة الوجع العراقي الممض والمزمن، وتحديداً وجع النساء، منذ أن كتبت مجموعتها القصصية (عالم النساء الوحيدات) مروراً بـ(موسيقى صوفية) ومازالت في الذاكرة محاضرتها الرصينة في إحدى أماسي إتحاد ألأدباء والكتاب في العراق مساء السبت 26/3/1994 لمناسبة صدور مجموعتها هذه، تناولت فيها جوانب من طفولتها بقضاء بهرز، حيث الماء والخضرة والهدوء الشامل، وثقافتها وقراءاتها وكتاباتها ثم كانت مجموعتها المهمة (مالم يقله الرواة) الصادرة عن دار أزمنة بعمان عام 1999، وروايتها (خسوف برهان الكتبي) التي طبعتها أول مرة دار ألواح بمدريد، وثانية بيت الشعر برام الله عام 2000، ثم الرواية المأساوية (ضحكة اليورانيوم)، لكن جاءت روايتها (سيدات زحل) لتكون رواية الوجع النسوي بامتياز، فضلا عن وجع الرجال ونكباتهم، إذ خصصت الفصل الثامن الذي سمته كتاب البنات، خصصته لأوجاع ونكبات وخيبات البنات؛ راوية، منار، هالة، شروق، لمى، آسيا كنعان التي تغادر العراق بجواز مزور باسم حياة البابلي، فضلاً عن الامهات الخائبات والزوجات المهجورات، تحطم منظومة القيم الحياتيه في العراق، صيرت الطبيب الجراح المختص بالانف والاذن والحنجرة، صيرته قاطعاً لأذان الرجال، هذا الذي يفترض به أن يكون مداوياً وآسياً لأوجاع الناس، يتحول إلى قاطع لصيوان البائسين، ليشوه الخلقة التي خلقهم الله تعالى عليها، هو جراح التجميل الذي يكثر من رسم طائر الشؤم؛ الغراب.
رواية (سيدات زحل) للروائية العراقية المغتربة لطفية الدليمي، وثيقة حية للحزن العراقي المستديم وللفجائع التي لفت حياتنا، مزجت الفن بالواقع بعيداً عن التسجيلية الفجة، وستكون مرجعاً لمن يريد دراسة الحياة العراقية من الاجيال التي تأتي بعدنا، ولن يكتفي القراء والدارسون، بالاستعانة بالتأريخ، بل سيستعينون بالفن الروائي الذي درس الحياة العراقية، ورواية (سيدات زحل) ستكون في مقدمة من يرجع اليه.
* المدى العراقية . 

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *