كيف تصبح كاتبا


* أمجد ناصر

ليست الكتابة الإبداعية مجرد حرفة يلتمسها المرء عند أساطينها ومعلميها شأنها شأن الحرف اليدوية، مثلا، بل لا بدَّ أن تتوافر لها أولا وأساسا، تلك الكلمة الغامضة التي نسميها “الموهبة”.
يمكن للمرء تعلم النجارة واحترافها عملا، ولكننا نعرف من خبراتنا الحياتية أن ليس كل النجارين سواء. الفارق بين نجار “يتفنَّن” في صنعته ونجار عادي ليس -حسب ظني- فارقا في الموهبة بل في المهارة.
وثمة مَن يجد فرقا بين الموهبة والمهارة ومن يعتبرهما شيئا واحدا، لكن الذي يجد فرقا بين الاثنتين يرى أن الموهبة استعداد داخلي فطري كامن، فيما تُكتَسب المهارة بالتعلّم والدربة.
ففي حين يمكننا تعلم النجارة، وربما برعنا فيها، لا يمكننا بالطريقة نفسها تعلّم الكتابة، أو هذا ما كان عليه الحال حتى ابتدعت الأكاديمية الأميركية صفوف “الكتابة الإبداعية” التي لا تزال رغم مرور عقود على اعتمادها من قبل الجامعات الأميركية، موضع شكّ في جدواها الإبداعية.
مع وجود مادة “الكتابة الإبداعية” في الجامعات، يمكن لمن يلتمس في نفسه الرغبة في كتابة الشعر أو القصة والرواية ويُظْهر بعض القدرات الأولية على ذلك أن يلتحق بهذه الصفوف التعليمية ويتخرج فيها حاملا شهادة جامعية.
هذا مضمونٌ وهو يحدث في أميركا وبعض البلدان الأوروبية الغربية، ولكن النتيجة غير مضمونة. ففي الشعر والقصة والرواية هناك جوانب لغوية وإيقاعية وأسلوبية يمكن تعلّمها على يد معلم، بيد أن ذلك المعلم -أيا تكن براعته- لا يستطيع بثّ روح الإبداع في تلميذه.
يرينا هذا أن الموهبة الأدبية -أو الاستعداد الداخلي للإبداع- هي ذلك النسغ غير المرئي الذي يجعل المادة الأدبية حية، نابضة وقادرة على نقل حمولتها (معناها، أو هزَّتها الجمالية) إلى المتلقي.
ذلك النسغ الخفيّ هو الذي يميز ما يكتبه الموهوب عما يكتبه غير الموهوب، حتى وإن بدا صنيع الأخير بلا خلل ظاهر (مبنى ومعنى). ولكن ذلك النسغ الخفي -الذي لا إبداع من دونه- ليس سوى الشرارة التي تقدح في ليل المعنى، فبعد تلك الشرارة الوامضة يأتي “العمل”.
سئل الكاتب الروسي العظيم أنطون تشيخوف يوما عن سرّ عبقريته فقال إنَّه لا يعرف شيئا عن العبقرية، ولكنه يعرف الكثير عن العمل المضني. ما لا يعرفه تشيخوف هو موهبته، استعداده الكامن للإبداع الذي قد يكون أقوى من غيره، لكن ما يعرفه هو الذي يهمنا هنا.. إنه العمل.
قبل صفوف “الكتابة الابداعية” بزمن طويل شرّع بعض الشعراء والكتاب نافذة على كواليس عملهم لمن يرغب بالإفادة من خبراتهم وتجاربهم، أو حتى لمن يدفعه الفضول الخالص إلى ذلك من القراء. وستظل خبرات من هذا النوع موضع طلب وتساؤل وفضول.
فبعد كل شيء هناك ميلٌ آدميّ الى “البصبصة” و”التلصّص” على ما هو مخبوء ومتوارٍ ومضروبٌ عليه حجاب. وفي هذا الإطار نُشرت كتب عديدة في العالم العربي تتعلق بـ “مطبخ” الكتاب والشعراء وطقوس عملهم، أو بنصائحهم للشعراء والكتاب الناشئين معظمها -إن لم يكن كلها- لشعراء وكتاب غربيين.
ومن بين أبرز من اهتموا بهذه المادة التي تتراوح بين النقد والسيرة والنصيحة الأدبية الكاتب والناقد المغربي أحمد المديني الذي أغنى المكتبة العربية بثلاثة كتب في هذا الباب، من بينها كتاب “عمل الكاتب، الكاتب وهو يعمل” الصادر عن دار أزمنة بعمّان.
منذ العنوان نحن أمام مادتنا هذه وجها لوجه، لا يتلكأ كتاب المديني هنا وهناك بل يذهب مباشرة إلى كواليس عمل أسماء كبار من طراز فيليب روث وبريمو ليفي وإيفان كليما وميلان كونديرا، ونايبول وستيفن كنغ وفكتور كلوفسكي، فيكشف لنا الستار عما لم نكن نعرفه عن مفاهيم هؤلاء في الكتابة والبيئة التي ينتجون فيها أعمالهم وطقوسهم وهم يعملون، والحلول التي يقترحونها لاستعصاءات الكتابة وانسدادها والاشكالات التي تواجه الحبكات الروائية إلخ.
وبما أن اهتمام المديني الأساسي هو السرد، فقد ركزَّ في كتابه هذا -كما نلاحظ- على تجارب روائية بارزة فقدمَّ لنا جوانب من كواليس عمل هؤلاء بأقلامهم ممزوجة بنظرات خاصة به ككاتب عربي له إسهامه المميز في السرد الروائي والقصصي كتابة وتنظيرا وترجمة.
ولا أجد أفضل مما يقوله الروائي الفرنسي برنار كلافل، عضو أكاديمية غونكور الفرنسية المرموقة، اختصارا لتضافر الموهبة والعمل الذي استهللت به مقالي هذا، فضلا عما يمكن أن نلمسه من أصداء عربية في كلامه من دون أن يقصد العرب البتة بل (يا للهول) الفرنسيين.
يقول كلافل “أن تكون روائيا، ليس أن تعرف كيف تكتب وحسب، فالموهبة يمكن أن تُطرَّقَ بقوة العمل. ولكن ماذا ستُطرِّق إن لم يكن لديك حديد؟ بوسعك دائما أن تضرب السندان، ستصدر موسيقى لطيفة، لكن لن تعطي أبدا قطعة محددة”.
ويضيف الروائي الفرنسي “أعلم أنه لكي تصبح روائيا فإنك تحتاج إلى مواضيع، إلى حكايات تقصها، إلى شخصيات تجعلها تعيش، وبكلمة ينبغي أن تحمل عالما بأكمله. لذا، فإن ما يحزنني خاصة، الخفَّة التي يدعي بها من شاء كل صباح أنه سيصبح روائيا بين عشية وضحاها!”
يمكنك أن تجلس في غرفة مكتب، أن تغلق الباب بإحكام، أن تسدل الستائر، أن تقفل الهاتف، على ما يفعل الكاتب الأميركي ذائع الصيت ستيفن كينغ، ولكن ذلك ليس سوى تهيئة لـ “جوّ” الكتابة. فماذا عن المشاكل التي تعترض عملية الكتابة، استعصاء حبكة أو شخصية؟
تقترح كاتبة أميركية أيضا صاحبة روايات تشويقية -هي باتريسيا هايسميث- ما يلي “يمكن للمشاكل أن تبدأ منذ الصفحة الأولى، إما لا يعجبنا الأسلوب أو لا نقتنع به. وهي تجربة أخرى أكبر نسبيا عدا كونها من طبيعة مختلفة. يمكن حل المشاكل الصغيرة كجملة عادية في دقيقتين بإعادة كتابة الجملة، لكن ثمة الأصعب، ما يحبسك في أوضاع مستغلقة”.
هذه تأتي في القسم الثاني من الكتاب -كما تقول الكاتبة- وقد توقفك أياما وربما أسابيع عن العمل. معها تحس أنك وقعت في مصيدة، صرت مكتوف اليدين والفكر جامد، يخيل إليك أن شخصياتك غدت مشلولة، وأن القصة قد تموت قبل أن تكتمل. لعل العلاج يكمن في العودة إلى الفكرة الأصلية، ما كان في رأسك قبل أن تشرع في الكتابة.
وتضيف الكاتبة “اطرح على نفسك السؤال: ماذا بودي أن يقع؟ عد إلى ما أردت أن تُحدث من أثر، سترى أن الحل، أو طريقة تعديل الحبكة، ستأتي ربما في آن واحد”.
وإذا كانت الموهبة، هذه الكلمة الغامضة التي يصعب وضعها تحت مجهر التحليل العلمي، هي الشرارة التي لا بد منها ليكون الإبداع إبداعا بحق، فإنَّ ما يلي تلك الومضة الخارقة هو، تقريبا، كل العمل الإبداعي. فليست تلك الومضة إلا قمة جبل الجليد. أما جسم الجبل وقاعدته وأركانه التي تجعل الجبل جبلا فهي “العمل”.
ولكن ما هي “العدة” التي ينبغي أن تتوافر في صندوق عمل الكاتب؟ هناك بالطبع أكثر من أداة ضرورية ولكن أهم أداة، بل الأداة التي يستحيل العمل من دونها، هي اللغة. هذا هو وسيط الكتابة الأول والأخير، إذ لا وجود لكتابة -أيا تكن- من دون اللغة. العالم كله أخرس، بل لم يوجد بعد دون اللغة. وهنا، هنا تماما، على هذه الأرض تحيا الأعمال الأدبية أو تموت.
لدينا في الحياة الثقافية العربية اليوم من يقول إن اللغة هي للشعر، أما الرواية فيخترعون لها مصطلح “اللغة اليومية”! ليس هناك بالطبع، لغة يومية وأخرى ما فوق يومية، هناك لغة فصحى تُكتب بها الكتب بصرف عن تجنيسها، وهناك لغات عامية نتداولها في الحياة اليومية (يُكْتَبُ بها ما نسميه “شعر العامية”) وتدخل في نسيج اللغة الفصحى، ولكن لا يؤلف بها الأدب.
وهذا موضوع آخر ليس هنا مجاله. لكن بوسع الفصحى أن تكون تراثية متقعرة، أو حديثة تنتمي إلى زماننا، وبهذه اللغة الأخيرة ينكتب معظم النتاج الأدبي العربي اليوم سواء كان شعرا أم نثرا.
وربما بسبب “الخفَّة” التي تحدث عنها الكاتب الفرنسي برنار كلافل صرنا أمام سيل عرم من “الروايات” يدبجُ معظمها مَنْ لم تقدح شرارة الموهبة في دواخلهم يوما، فضلا عن استخفافهم بـ “عدة شغل” الكاتب التي لا تقل أهمية، كما رأينا، عن الموهبة، فلم يتزودوا لرحلة الكتابة وطريقها الطويل بمخزون من القراءات وتجارب الحياة، ولم يحفلوا بأداتهم الأهم: اللغة، معتبرين أنها مجرد ناقل لعناصر الرواية حكايةً وحبكةً وشخوصا.
لكن اللغة أكثر من ناقل لـ “الموضوع”. إنها ليست عربة لجرِّ المعنى. فلا موضوع من دون اللغة ولا معنى بدونها كذلك. إلى هذا الحد، اللغة ضرورية ليس فقط لفهم العالم والتفكير فيه بل لخلقه بدءا.
المصدر:الجزيرة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *