ربيعة جلطي في ” نادي الصنوبر “..!



مايا الحاج *

 

للصحراء عالم لا يعرف الآخرون عنه غير رماله وشمسه وخيمه وإبله وبدوه… الحياة فيها منكفئة على ذاتها وأُناسها وعاداتها وتقاليدها. حياة الصحراء مقفلة إلاّ على السماء التي توازيها في لانهائيتها.
ورغم أهمية الصحراء في الثقافة العربية وفي تاريخ الشعر العربي، فإنها لم تُستثمر روائياً في شكل كبير لصعوبة الإحاطة بموضوعاتها المختلفة إن لم تكن أتيت منها وعشت طقوسها وعاداتها.
ومن المجتمعات الصحراوية ذات الطابع الخاص والغريب مجتمع الطوارق الذي عرفناه في روايات الليبي ابراهيم الكوني الذي عرف كيف ينقل إلينا تفاصيل هذا العالم لانتمائه إليه.
والطوارق يعودون إلى الواجهة من خلال رواية جديدة للجزائرية ربيعة جلطي بعنوان «نادي الصنوبر» (الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف).

تتسلّل الصحراء في هذا العمل كشخصية أخرى اختلقتها الروائية لتكون ظلاّ للشخصية الرئيسية «عذرا».
فنتعرّف إلى البطلة من خلال الصحراء التي أعطتها من جمالها وسخائها وسحرها وغموضها وقوتها حتى غدت «عذرا» امرأة لا قرين لها سوى الصحراء.
ففي صوت عذرا نسمع «حشرجات الرمال» وفي جمالها «توحّش» البيداء وفي «سمرتها النحاسية» لون التراب.
الحاجة عذرا قد تكون الشخصية الأدبية الأكثر تعبيراً عن البيئة الطارقية التي تكشف فيها المرأة جمالها فيما يتلثّم الرجل. تفتخر عذرا بمجتمعها الذي تكاد المرأة أن تكون فيه «مُقدسة».
مجتمعها «الأمومي» المُنتسب إلى الملكة «تينهينان»: «ولن أسمّى عذرا سليلة تينهينان إن أنا لم أفعل» (ص136).
وتتباهى بفرديتها وحريتها «أنا التي أختار… أنا بنت الطوارق» (ص84)، وتعتزّ بأصولها قائلة: «لست أدري لماذا أشعر بالتفوّق وأؤمن بأنني من تربة أخرى مختلفة، معجونة بماء الحرية والحياة المنطلقة المفتوحة على السحر والأسرار والفرح».

ومع أنها اعتزلت الحياة في الصحراء فإنها تستحضر فضاء المكان الذي ولدت فيه وعاشت فيه يومياً عبر رائحة الشاي وصوت زفيره ومشهد غليانه وطريقة صبّه في الكؤوس.
شهرة الشاي أو «التاي» كما تلفظها الحاجة عذرا طقس يومي تتشاركه وثلاث فتيات قصدن المدينة من أنحاء مختلفة من الجزائر، فتتوسط الجلسة وتأخذ دور الحكواتية التي تنقل إلى المتلقيات الثلاث حياة شبه أسطورية في صحراء توجّت المرأة ملكة وحاكمة وقاضية.

يتجلّى المجتمع الطارقي الذي طالما شدّ انتباه الباحثين الأجانب لغرابة طقوسه وعاداته كمجتمع ساحر بل خيالي. فالجميلة عذرا تعرّفت إلى زوجها الثاني، الثريّ العربي، في حفلة طلاقها الصاخبة التي اعتاد الطوارق أن يُقيموها لكلّ مطلقة.
وبعدما أدّت رقصتها أعجب فيها الثري الذي قصد صحراءهم للصيد فما لبث أن اصطادته بنار نظراتها.
وبعدما أخذها إلى دياره وعجزت عن التكيّف مع ذاك المجتمع، عادت عذرا إلى الجزائر حيث اشترى لها فيللا في أرقى شوارع العاصمة «نادي الصنوبر».
لم تتمكن عذرا الطارقية من العيش داخل هذه الفيللا الضخمة فاختارت مسعود حارساً لها، بينما عاشت هي في شقتها الأخرى وأجّرت الشقة المقابلة للفتيات اللواتي يُشاركنها سهرات الشاي الليلية.

وكما سبرت ربيعة جلطي أغوار الصحراء عبر شخصية «عذرا»، فإنها تسبر أيضاً من خلال شخصية مسعود، الذي يمسك بطرف السرد غير مرّة، أغوار المجتمع المدني.
فنتعرّف إلى الشاب الوسيم الذي لم يجد فرصة عمل بعد تخرجه من الجامعة فاضطر للعمل كحارس فيللا للسيدة عذرا التي دوّخته في حبها إلى أن صنع لنفسه قريناً وهمية سمّاه كوكو ويستهزئ منه بقوله: «عذرة العذارى ومسعود يا خسارة».

أمّا المدينة فتظهر كالنقيض من الصحراء. عوضاً عن الحرارة والسحر والصخب تجد البرودة والسأم والرتابة. عذرا لم تتخلّص من الشعور بالغربة في المدينة التي تملكت فيها أكثر من بيت: «اللعنة على العواصم، مليئة بالغرباء مثلي… لا أحد يسأل عن الآخر أو يزوره أو يقلق عليه.
ترى هل سأعود إلى صحرائي يوماً ما بما بقي سالماً مني، أم سأفقد نفسي وطارقيتي؟» (ص102).
بل إنها تنعت المدينة بـ»المقبرة المتحركة» التي يتململ فيها الناس وكأنهم موتى، بلا روح ولا فرح.
وتبدو عذرا امرأة قادرة على كلّ شيء إلاّ على التآلف مع حياتها الجديدة فيها: «عذرا تنام وتصحو على الحنين» (ص95).

ربيعة جلطي تؤرّخ للصحراء الجزائرية الجنوبية من خلال امرأة عرفت كيف تنقل إلينا حبّ الصحراء من دون استحضار القبائل والملاحم والتحديات.

( مجلة لها )

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *