تجميد الإسلام


محمد برهومة *

 لا أعتقد أن الدين سيكون بخير إذا لم يكن العقل بخير. ولن يكون الاثنان بخير بدون حرية.

هذا الكلام يُستدعى ونحن نسمع منذ أيام عن فتوى للشيخ عبدالله المنيع، عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية، يحرّم فيها تناول الطعام الذي تعدّه الخادمات الوثنيات (غير الكتابيات)! وكنّا سمعنا سابقا كثيرا من مثل هذه الفتاوى، ومن ذلك اقتراح الداعية السعودي يوسف الأحمد بهدم الكعبة وإعادة بنائها، بما يضمن الفصل بين الجنسين في المسجد الحرام!



الموضوع على صلة وثيقة بقضية الأخلاق والإيمان. وقد لاحظ المفكر الراحل محمد أركون أنه طيلة قرون، كان هناك مصدران أساسيان يغذيان التفكير المتعلق بالأخلاق، هما: التراث الديني من جهة، والخط الإغريقي للفلسفة من جهة أخرى؛ وأنه في زمن ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، كان في الحياة اليومية للمسلمين تناغم أو تعايش بين الأخلاق الدينية والأخلاق الفلسفية.
غير أن هذا الأمر لم يدم طويلا، فقد حصل انفصال بين الخط الديني الذي انتصر وهيمن، وهو الذي يُرجع منظومة الأخلاق إلى المصدر الأول للاعتقاد الإسلامي المتمثل في كلام الله تعالى المتجسد في الخطاب القرآني، وبين الخط الفلسفي الذي هُزم وسُحق ولم تقم له قائمة بعد القرن الثالث عشر عمليا. هذا الأمر، جعل مع الزمن كثيرا من المسلمين “مخلوقات فقهية” أو من صنع الفقهاء، كما يقول ياسين الحاج صالح، ما أضعف بالتالي بناء الضمير الحيّ المستقل. بل إن تلك “المخلوقات” تأسست في عمومها على مبدأ نُدرة الإيمان الذي يجعل سلطة تعريف الإسلام محتكرة من قبل خطباء الجمعة والمفتين والفقهاء فقط، ممن يركّزون في ترسيخ مبدأ ندرة الإيمان على توبيخ عموم المؤمنين والمستمعين على تقصيرهم المفترض، الأمر الذي يعزز التقليد ويضيّق الحرية؛ إذ إن “الوجدان المعذّب الواقع تحت ثقل آثامه المفترضة الساحق، لا يسعه أنْ يشقّ مسالك غير مطروقة، أو يخرج على نهج مقرر، أو يبدع أفكارا جديدة.



والوجدان الآثم لا يتحدى سلطة أو يقول لا لمرتبة مقررة، بل هو يحتمي بالتقليد وحماة التقليد، وبهذه الطريقة يصون العلماء سلطتهم ونفوذهم”.لا داعي هنا للتأكيد أن الدين يحثّ على مكارم الأخلاق والفضيلة والخير والحبّ والجمال والبر. لكن هذه الحقيقة الناصعة شيء، والقول إنه لا إمكان لأخلاقية غير دينية شيء آخر. وإننا قد لا نبالغ في الاستطراد كثيرا حين نتذكر أنّ موقف فرنسا (الموصوفة بأن علمانيتها متطرفة تجاه الدين) من المأساة السورية الجارية، أكثر أخلاقية من موقف إيران، الجمهورية الإسلامية! ولذا، من المهم للتفكير الإسلامي المعاصر إعادة الاعتبار لمسألة الأخلاق بالارتكاز إلى أفقها الإنساني الواسع والمنفتح، الذي يستند إلى العقل المستنير الضامن لحرية الإنسان وكرامته، والمتناغم مع أشواقه وأحلامه.
الفتاوى التي بدأ هذا المقال بالحديث بها، تنمّ عن قلة ثقة بالإنسان، وبتقديم الفقهيّ على الأخلاقيّ، والتقليد والتقييد على الحرية والعقلانية، والتشاؤم على التفاؤل؛ وإلا فكيف نقرأ قول الشيخ المنيع: إن الحكم الشرعي لتناول الطعام الذي تطبخه غير الكتابية (البوذية والهندوسية) محرّم، وفي حال استقدامها يجب تفريغها لأعمال التنظيف فقط، حسب قوله؟!كفى تجميدا للإسلام، وكفى مزايدة على إيماننا وضمائرنا وأخلاقنا وعقولنا… أوليس من المزايدة الكبرى على دين الإسلام وعلى نبيه الكريم أن يدعو داعية إلى هدم البيت الحرام لضمان عدم اختلاط الجنسين؟!


 “الغد”

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *