الكراسة الزرقاء


رزان المغربي *

( ثقافات )


 


نحن في الحياة نبحث عمن يقاسمنا الشبه ، في طريقة تفكيرنا وأسلوب حياتنا، لنرضي ذواتنا أحياناً بأننا نسير على الوجهة الحقيقية في الحياة، إذا التقينا الشبيه ربما نعقد معه صداقة حميمة، وفي أحيان يسود نفور مفاجئ من استشرافٍ لمنافسةٍ قادمة حول من منا الأصل ومن النسخة المزورة .
في داخلنا ولاوعينا نرفض أن نكون مزيفين، ولكن ما هو ذنب الشبيه ومطلبه أنه حقيقي أيضاً؟ أتحدث هنا عن عوالم داخلية ، وتناص مشروع في الحياة، إنما في الأدب ما لذي جعلني اشعر بالرعب بدل الشعور بالألفة أو الغيرة من شبيه لاأعرفه ولايعرفني سؤال متأخر يأتي وأنا مازالت أواصل قراءة رواية (ليلة التنبؤ) للكاتب الامريكي ” بول أوستر” ؟
لم أسمع باسمه من قبل ولم أقرأ له ، إلا أنني كلما حكيت عن عوالم ورحلة كتابة روايتي الأخيرة وقصة ” الكراسة الزرقاء ” يفاجئني سؤال : هل قرأت ليلة التنبؤ ؟
سؤال من الصديقة نعيمة العجيلي ثم تلاها الفنان علي العباني والشاعر سالم العالم.
وسأبدأ بقصتي أولاً ( لعل أحدكم وقبل أن ينتهي من القراءة يسأل عن ( ليلة التنبؤ) ايضاً”
مشروع كتابة إي عمل إبداعي، لايمكن أن يبدأ في لحظة الشروع بالكتابة ، بل تسبقه مشاعر متضاربة ، حتى تنتهي بالتهيؤ النفسي وبطقوس الكتابة من اختيار الورق أو الكراس أو الأقلام ، طاوله الكتابة ركنها الأثير المحبب ، الضوء الخافت، الصمت المطبق، في نهاية الأمر ربما تبدو جميعها حيل ذهنية يتعلق بها الكاتب لتمنحه شعوراً بالطمأنينة.
وبعد أن قطعت أشواطاً من تلك الطقوس قررت ذات صباح المرور بالمكتبة القريبة من مكان عملي ، دخلت إليها ، وقفت متأملة مجموعة من الكراسات، ذات شكل معين غالباً ما اقتني منه الكثير وبأحجام مختلفة، لدرجة إنني امتلك مجموعة كراسات ذات الحجم الكبير، خصصتها لكتابة الرواية، وبقيت مهملة مركونة في المكتبة دون أن أكتب عليها حرفاً واحداً، في كل مره اشتري كراسة ، وافتح الصفة الأولى البيضاء وأتوقف أمام تحدي جديد لايمكن اختراقه ، ثم أتناسى وجودها، وهكذا .
ذلك الصباح وأمام أحد أرفف المكتبة قلبت الكراسات تناولت أحداها، كانت تحمل نفس المواصفات التي اشتريها دائماً، ذات غلاف سميك ومن الداخل مقسمة بفواصل ملونة صغيرة، إلا أن لونها الأزرق الداكن أعجبني … تأملتها لأكثر من خمس دقائق تفحصتها جيداً وكأنني سأجد داخلها روايتي مكتوبة، إلا إنني فجأة رميتها وأنا امشي بإهمال، على نهاية الرف بعيداً عن مكانها ، وخرجت وفي طريق عودتي بعد ساعات، دخلت إلى ذات المكتبة لأختار كراسة جديدة ، كانت شخوص الرواية وأطيافها تُمر أمامي طيلة النهار اسمع أصواتها ، مثل أشباح متعبة الأرواح تريد أن تعود إلى الحياة من جديد، فتشت الكراسات قلبتها جميعها متشابهة إلا أن ألوانها مختلفة، فجأة من بعيد لمحت كراستي الزرقاء مرمية في اقصى الرف، كما تركتها في الصباح لم يمسسها أحد بعدي، ركضت نحوها احتضنتها بألفة وقلت لها أنت من سيكتب الرواية!
وبعد ساعة واحدة لم تعد الصفحة البيضاء الأولى كما كانت، أخذت الصفحات تتراكم فوق بعضها البعض حتى انتهى حبر القلم، وتوقفت أبحث عن قلم يحمل نفس المواصفات، أيام طويلة حتى عثرت عليه وامتلكت منه علبة كاملة، حتى لا أتوقف من جديد عن الكتابة.
لكن المفاجأة كانت بعد أن انتهيت من كتابة الرواية وتمكنت من الحصول على رواية ليلة التنبؤ، التي يتحدث فيها الكتاب عن مشوار عمله وطقوس كتابته لرواية بهذا العنوان، دخوله إلى مكتبة وشراء كراسة زرقاء، حديثه مع البائع، تعلقه الشديد بالكراسة، الروائي بول أوستر يحكي عن تفاصيل يومه ويخبرنا بتفاصيل الرواية التي يكتبها وتطور أحداثها، المتقاطعة بشكل مستمر مع أحداث يومه الحافل، وعن صديقه الكاتب أيضا، رواية ليلة التنبؤ هي رواية داخل الرواية، وهي تناص مع رواية أخرى لكاتب مشهور، كنت أواصل القراءة وفجأة تذكرت أنه نسي موضوع الكراسة بعد أن تحدث عنها لصديقه الكاتب الذي وجد لديه كراسة زرقاء تشبهها، وانتقل من جديد إلى مكان أخر وحزن كثيرا لأنه لم يشتري أكثر من واحدة ، بعد أن أغلقت المكتبة أبوابها، وفي أحد الليالي التقى صاحب المكتبة، وجرت بينهما أحاديث بعيدة عن الكتابة، أثناء قراءتي تلك سألت نفسي قائلة : لو كنت مكانه لسألت صاحب المكتبة هل مازال يمتلك المزيد من الكراسات الزرقاء؟
بعد سطرين من القراءة ، أطبقت الرواية وشعور بالرعب يتلبسني، أعدت فتح الكتاب وأعدت القراءة ، ثم قررت أنني لن أنهي قراءتها.
كان بول أوستر يكتبني ويقرأ أفكاري، بل أنا التي كنت أسبقه وأقرأ أفكاره ، عندما قال: (( .. وتساءلت إن كانت تلك الدفاتر التي رأيتها يوم السبت كانت لا تزال موجودة وإن كانت لا تزال هل كان سيرغب في بيعها لي؟)).
الرواية حافلة بأحداث تشبه التنبؤ، فكل ما يفكر به الكتاب أو يتصرفه يجد أن آخر سبقه إليه!
أعود للقول أننا الكتاب لانحب أن نلتقي من يشبهنا، عكس القارئ، لأن كل واحد منا يريد أن يسبق الآخر لتدوين مايجول في خاطره، ومع ذلك لابد من وجود تناص قوي في الحياة، إلا أن الكتابة هي شاهد أقوى ولديها نفوذ أكبر للدفاع عن حقها الاكتشاف المبكر، لهذا أجدني حريصة على تدوين أفكاري ونشرها ، فكل فكرة جديدة هي إبداع لم يسبقني إليه أحد من قبل ، فقط علينا أن نتحلى بالشجاعة.


* روائية وصحفية من ليبيا

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *