عشاء أحمد الثالث


علي السوداني *

وكنّا كلّما فتحنا باباً طازجاً من بيبان كتابنا ، قيد الإنشاء والتشكيل والتمحيص ” بخلاء علي السوداني ” أعدنا على عتبة المفتتح ، بإسمه جلَّ جلالُه ، قولة تمييز وتفريق وتوصيف منير مضيء ، بين البخيل البخيل الذي هو مرسى قلمنا وتهكمّنا وتندّرنا وتفكّهنا ، وخفّة ذمّنا ونمّنا ودَمِنا ، وبين نظيره في الخلق والخلقة ، الفقير الفقير ، الذي قلّته الأيام وقلّبته فوق جمرها ، حتى غدا مشتولاً مشموراً مقذوفاً خارج مائدة الطيبات اللذيذات ، ينفخ تحت قدْرٍ نامت تحت رماده بقيا نيران ، ويرى إلى عياله ، تتباكى وتنطر خراج مرقة حصى . هذا الفقير الفقير المشكوك في أمره وتدبّره ، في دفاتر الجاحظ ومقامات الحريري ، لن يكون صيداً لسهام حروفنا ، ولا مقصفاً لهاونات كلامنا الثقيل ، ولا هو عصرية قنص ، نتلهى بها ، أو نصنع منه ، مسواك ضحك ، وغرغرة بلعوم ، ومثله على هذه الحال ، ليس كمثل أخيه البخيل ، الذي سنصليه بجام غضبنا ، وجامات حرفنا ، حتى لو لبس ألف قناع ، ودحس روحه في قاع شيشة . ثمّ أننا كنا على أوشال السنة التي غربت وبادت ، قد انتهينا من بلبلة الربع الأول ، من كتابنا المازال على زمان البناء ، وإذ قصرناه قصراً ، على صنف الأدباء والفنانين من خلق الله البديع ، فلقد اشتكانا بعضهم ، وشكانا الى غيرنا آخرون ، حتى دخلنا سين العتب ، وزاي الزعل ، وتاء التنكيت ، فداخت جمجمتنا ، وتوتّرت أعصابنا ، حتى قعدنا على بعض قنوط ويأس من حلم اكمال الكتاب ، وبينا كنّا في سبيلنا ، إلى دقّ ربعه الأول فوق رفّ النسيان ، أو التأجيل المشتقّ من دفتر التنبلة ، حتى جاءت بنا ليلة من ليالي الربّ الكريم المسهّل المفرِّج ، الذي إن قالَ كنْ ، فقد كان ، وصار على كينونة وبينونة بائنة ، وإن أراد أمراً ، فلا رادّ لما أراد ، وبه وبتعضيده وتعميده وعنايته ، قعدنا على سور مائدة صاحبٍ لنا ، كانت الأيام السود التي سخّمَ رمادها ، أيام بلاد الرافدين العزيزة ، قد فرّقتنا وطشّتنا وطشّرتنا ، فصار هو بدار فخمة مرفوعة فوق تلة متلتلة ، عند قطب الأرض الثلجي ، وصرنا نحن ، نزلاً راسخاً نابتاً بخاصرتها المخصّرة ، على مقربة من خشم البلاد . صاحبي الذي اسمه أحمد ، كان فنّاناً من صنف النحّاتين ، وقد ورث الصنعة عن جدّه لأُمّه ، أسطة بحر النجّار ، وكان سكنة زقاق النجّارين ، يسمونه بحر البخيل ، الذي قيل عنه أنه اذا ما وجّه وجهه الأصفر ، صوب منقل شواء ، ابتاع لجوعه سيخاً واحداً ، وفرشه ببطن صمّونة كبيرة ، وقبّعَ شقف اللحم ، بما شالت يمينه من طاسة الطماطة ، وما كمشت يساره من سطل الخضروات ، التي منها الرشّاد والكرّاث والكرفس والريحان والبصل الأخضر ، وهذه بضاعة مقبّلات ، وفاتحة مغلاق شهية لا يُستوفى سعرها ، فيأكل بحر ، لفّة الشواء مبتدئاً برأس الصمّونة الكبير ، ثم يأتي على باقي البدن ، عضّة إثر عضّة ، فإن جاءت إحدى العضّات ، بقطعتي لحم صغيرتين ، قام بدسّ سبّابته والإبهام بحلقه ، وقبض على واحدة وأعادها الى بطن الرغيف ، وبحسبة رياضية لا تخطىء ، ستكون عضة الأسطة بحر الأخيرة ، نائمة على قطعتي لحم واضحتين ، وبهما سيظلُّ حلقه ، نابضاً بطعم ورائحة الشواء اللذيذ . أنا الليلة ، مزروع بمصادفة غير رحيمة ، على سور مائدة حفيده ، أحمد النحات ، في قلب حانة صغيرة من حانات وسط ربة عمّون . نادل تعيس مصلوب فوق رأس صاحبي ، وصاحبي ما انفكّ يجلده بسياط الأسئلة ، عن سعر عبوة الماء ، وصفات كأس الخمرة البلدية ، وإذا ما كانت الحانة تقدّم مازّة مجّانية . أحمد صديقي يدخّن ، لكنّ سكائره مضمومة بجيب آمن فوق قلبه ، فإن احتاج واحدة ، مدّ يمينه وسَلَتَ السيكارة بحنان وخفّة . أحمد سكَرَ وجاع . صاح على النادل جورج ، بطقّة اصبعتين ، أن هات لي سيخ لحم مضموم ببطن رغيف عظيم . أحمد الآن يُجهز على لفّة الشواء ، تماماً مثل جدّه بحر ، عصارة البخلاء ، وفي كلّ عضّة ، كان صاحبي النحّات ، يرميني بإبتسامة تشبه صفعة ، رددتها عليه ، لحظة تسخّمَ وجهه الأصفر ، قدّام فاتورة الحساب !!


  * قاص من العراق يعيش في الأردن

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *