بنية اللغة في الشعر الأردني المعاصر




كمال عبد الرحمن *

(  ثقافات )

 

سيكون اشتغالنا في هذه الدراسة عن الشعر الاردني على عنصرين مهمين من عناصر اللغة الشعرية،هما:
1.الثنائيات الضدية.
2.المعجم الشعري.
إن اللغة هي رحم تجريبية القصيدة العربية الحديثة ومن خلالها نحاول معرفة حجم الانجاز الشعري الذي تجسده حداثة شعرية مغايرة للسابق الشعري،
كما أن النص الأدبي أيا كان شعرا أو نثرا، هو كيان لغوي قائم على الانزياح(1) الذي يمنح المفردات حياة جديدة من المعاني والدلالات، بعيداً عن حدودها الضيقة داخل معاجم اللغة، فلغة الشعر مخالفة للغة أي جنس آخر.
فاللغة داخل النص الشعري قائمة على الاختزال والتكثيف وهي أكثر قدرة على البث الشعري في إطار بنيته الجديدة(2)، واللغة الشعرية هي لغة المجاز، أو هي مجموعة من المجازات والاستعارات البلاغية، وباختصار هي لغة منزاحة، والشعر هو (لغة داخل لغة)(3)،ولا شك أن الشاعر مطالب بلغة مبتكرة، وهذا ليس معناه ابتكار دالات لغوية غير واردة في المعاجم،إلا أن الابتكار يكون في التشكيل وهو التركيب المميز للدالات( ويعد الخطاب الأدبي ـــ خلق لغة من لغة)(4) والشاعر لا يخدم اللغة بهذا الشكل ، بل يثور عليها، ويفجرها من الداخل، ولا يستعمل كلمة ما إلا لتخلق موضوعا وتتشكل مع بنية أو تركيب جديد بحثا عن حقيقة ذاتية(5)
الثنائيات الضدية
إن النص الذي يتنامى من خلال ما يحمله من تناقضات، هو النص القادر على بلوغ مرحلة الأداء الدرامي في جميع أشكال القصيدة (6)، إذ يبقى التضاد أساس الموقف الدرامي للنص الشعري(7)، وتأتي أهمية التضاد من كونه يشكل عنصر المخالفة، وهذه(( المخالفة تغدو فاعلية أساسية ، يتلقاها القارئ عبر كسر السياق و الخروج عليه ))(8)كما يقول جون كوهين (( الشعر يولد من المنافرة))(9) وذلك لأن المنافرة لها القدرة على صناعة نوع من الدراما المتطورة في النص ، حتى يصل إلى صناعة الإيقاع الداخلي للقصيدة وهي ــ المنافرة ــ شرط من شروط توفر الإيقاع.
ونجد ظاهرة جمع التنافرات في الشعر الأردني المعاصر واضحة لدى العديد من الشعراء الأردنيين، ويمكن تقسيم هذه الثنائيات إلى:
أ.ثنائيةالتضاد(الضوء /الظلام)
ب.ثنائية(الصمت/الكلام)
ج. ثنائية(البرد/النار)
د.ثنائية( الحزن/الفرح)
هـ.(الذهاب/العودة)
و. ( الشر/ الخير)
ز.(النار/الماء)
ح.(الابتسام/الدموع)
ط.(الأرض/السماء)
ي.(الأبيض/ الأسود)
ك.(القاتل/القتيل)
ل.(الزمن/اللازمن)
م.(البداية/النهاية)
ن.(السلم/الحرب)
س.(الصحو/ النوم)
ع.(الصوت/الصدى)
ف.(العمى/ البصر)
ص.(الارتفاع/الانخفاض)
وهناك ثنائيات لم نذكرها إما اختصارا ا وإيجازا او لتشابهها مع ثنائيات أخرى مما ذكرنا في أعلاه.
ففي ثنائية(الضوء/الظلام) نقرأ من قصيدة الشاعر مروان حمدان(ما لا نص له)(10):
((الشرق يميل
إلى العتمة
فيما يداه تغسل آثار الضوء
المتبقي
في لغة الشاعر))
ويقول الشاعر نضال برقان في قصيدة (قل هو الحرف):(11)
(( وأجمل مما تظن
الكواكب
إذ تجعل الصبح
في ظلمتين))
وفي قصيدة د.آمنة البدوي(من حواريات الشنفرى) نقرأ عن ثنائية(الضوء/الظلام):0(12)

((فتفر صوب الضوء
لتجلي الليل المدمى
بالغياب
وتظل تهتف في الضباب
لا الضوء ضوؤك
لا ولا هذا الضباب))
ويقول د. إبراهيم الكوفحي في قصيدته( هراء)(13)
(هذا الكلام
من الظلام
فبئس
أعداء الضياء))
لاشك أن بنية التضاد تعد إحدى البنى الاسلوبية، التي تغني النص الشعري بالتوتر والعمق والإثارة(14) وتقوم هذه البنية على الجدل(الديالكتيك) الذي يعني وجود حال تناقض وصراع وتقابل بين أطراف الصورة الشعرية، وغالبا ما تكون الثنائيات الضدية ، هي العنصر الأكثر أهمية بين مكونات النص الشعري(15)
وفي ثنائية التضاد(الصمت/ الكلام)، يقول الشاعر محمد القيسي في قصيدته(عزف منفرد على العمود الفقري)(16):
((أنا مقاد إلى جزيرة نائية
اسمها الصمت ، أقول
أنا الحالة المستعصية
الحركة الساكنة
الغموض المباشر))
وفي ثنائية(البرد/النار)، نقرا للشعراء، أولا الشاعر يوسف عبد العزيز في قصيدته(معلقات قصيرة):(17)
((تطير نارا
من مفازة صدرها
وترعش كالعصفور
من شدة البرد))
ويقول الشاعر إيهاب الشلبي في قصيدته(مبتردا بناري:(18)
((فتجفل بارتعاش الومض قلبي
وتجفل من صدى دقاته
وأنا أروم عناق نرجسها
فترميني بجمر تعلقي
وأروح مبتردا بناري واحتراقي))
أما ثنائية(الحزن/ الفرح)، فنقرأ للدكتور راتب سكر في قصيدته(أبي ينحت الحجر):(19)
(( بثوب الحداد
يوقظ الأرض
يفرحها
بالجديد))
ويقول الشاعر الدكتور محمد مقدادي في قصيدته( خابية الملح):(20)
(( وأمضي .. وحيدا،
أعود إلى أول الجرح
حين استجرت
بالسماء من علقوني
على جسر أحلامهم))
إن التضاد يحدث تحولا عميقا في بنية النص، إذ يشحنه بالحركة التي تستوعب في صلبها مفارقات الحياة، وكل ما فيه يوحي بحركة الجدل التي تعتمل بالواقع، والنص الذي يتنامى من خلال ما يحمله من تناقضات ، هو النص القادر على بلوغ مرحلة الأداء الدرامي، إذ يبقى الموقف الدرامي للنص هو الأهم.
وفي ثنائية(الذهاب/ العودة) يظهر التضاد واضحا في قصائد الشعراء،أولا الشاعر إيهاب الشلبي حيث يقول:(21)
(( ومضى .. ثم آب
ومضى.. ثم آب
وانفك ينفض
عن مقلتيه
نداء السراب))
ونجد هذه الثنائية واضحة في قصيدة د.مقدادي،حيث يقول:
((وكي يسافر في ّ
إلى آخر القطر،
ثم أعود إليّ
كما كنت قبل التصحر))
وفي هذا الصدد يكتب الشاعر حاكم عقرباوي في قصيدته (ليس للقتلى سبيل غير أن يمضوا إلى الفكرة):(22)
(( وحرب للأمام
وللوراء خطوتان
يضمد الليل المطل على النعاس
جراحه
ويغيب في الزمن النحيل))
أما في ثنائية( الشر/ الخير)، فنرى ذلك جليا في قصائد،أولا الشاعر أحمد يهوى في قصيدته (شيزوفرينيا البزة العسكرية):(22)
((يخلع بزته ويركلها…
ويهددها بمقص صدئ..
ثم يرتديها))
ويقول الشاعر حاكم عقرباوي:
(( لاشيء تخسره المدافع
لا شيء يخسره المدافع
ليس للقتلى
غير أن يمضوا إلى الفكرة))
ويقول الشاعر حكمت النوايسة في قصيدته( كأني السراب):(23)
(( فرطت براسي
بكت أشجار الشام،
والشياطين والملائكة
وبكت أرض كانت تسمي العراء
غيرت ألوانها))
وفي ثنائية(النار/الماء) يظهر التضاد واضحا في قصائد، أولا الشاعر زياد العناني في قصيدته (نحو مفتاح الجنون)(24)
(( سأعبد الشمس ثم أرفضها
سأعبد النار ثم أرفضها
سأعبد الماء ثم أرفضه
سأعبد النجوم..
وأعبد القمر..))
ويقول الشاعر راشد عيسى في قصيدته(ذاك أبي):(25)
(( هو الخلوي الزهي
المبهر بالماء والنار
والمستكن إلى لسعة
الزنجبيل))
أما في ثنائية التضاد(الابتسام/ الدموع) فنقرأ للشاعر راشد عيسى في قصيدته( قصائد رأس السنة):(26)
(( في بسمة الوجود دمعة
مهندسة
تقول إننا غبار
والموت مكنسة))
ويشتغل حيز التناقض في ثنائية(الأرض/السماء) على مسافة مائزة في الشعر الأردني، ومن ذلك قول الشاعر غازي الذيبة في قصيدته ( طائر القلب)(27)
(( قبل أن تنثر الأرض غرتها
والسماء أنجمها
قبل الطيور تمر
على الريش
فوق الغيوم))
ويقول الشاعر محمد ضمرة في (عناوين الجذور):(28)
ولم يكن في جريها فوق الصخور
لها جياد
فمشت بما أسرفت من عزمي
وروحي فوقها تطفو
تفتش عن سماوات
تعالت..))
ويقول الشاعر نضال برقان في قصيدته (ثلاث قصائد):(29)
((تحلق بيني وبينك ارض
وتلهو سماء على درج بيننا
سأقول بأنك مبهمة))
ويقول الشاعر يوسف عبد العزيز في قصيدته(ثلاث قصائد):(30)
(( في كهف اسود
خلف سماء سوداء
ما زال الماضي
الكهل يقيم))
ويقول الشاعر إيهاب الشلبي في قصيدته( هنا القلب):(31)
(( ويعلو الوجيب
كأنْ سوف تدعو
إليها السماء
تقبل صخرتها في حنو رقيق))
وأما في ثنائية ( الأبيض/ الأسود) فنقرأ للشاعر أحمد الخطيب في قصيدته(ماذا تقول الريح للمرآة):(32)
(( حجل يؤنبني
السواد بداية للموت، لا
قال الذي أبكيته عشرين منفى،
البياض هو النزوح إلى السواد))
ويقول الشاعر نضال برقان في قصيدته (صباح برائحة اليقين):(33)
(( وخلفتني بالبياض
مدججا حد السواد
كأنما وجهي سؤال
لا يفتش عن جواب ما..))
وفي ثنائية( القاتل/ القتيل) نقرأ للشاعر نضال برقان، أيضا(34)
(( كأن بعضي قاتل
وكأنما بعضي قتيل
سقطت على وجهي السماء
وحاصرتني البيد))
أما في ثنائية( الزمن/ اللازمن) فنقرأ للشاعر راشد عيسى:
((لا وطن في خطاه
سوى اللامكان
ولازمن في مداه
سوى اللازمان))
ونقرأ في ثنائية(البداية/ النهاية) في قصيدة جلال برجس(تقاسيم لامرأة سميتها الشمس):(35)
(( يا بحر طوبى لمن قال
إن بداية الأشياء
شرنقة الندى
ونهاية الأشياء تنثر
رجعها الأزلي))
وفي ثنائية( السلم/ الحرب) نقرأ للشاعر سعد الدين شاهين(ليس في التاريخ صدفة):(36)
(( النهايات التي في الحرب
أو في السلم
أو في الحلم
أو في العلم
رهن بالبدايات))
وفي ثنائية(الصحو/ النوم) نقرا للشاعر أحمد الخطيب في قصيدته( يمشي كماء وضوئه في الماء):(37)
((تنأى الديار فلا تنامي
أي فنامي
بعد ترياقي وسطحي))
ويقول الشاعر إيهاب الشلبي في قصيدة سابقة:
((فوجهي الذي
نام فيك
بريئا من الافك
كان استفاق على
ليل عينيه))
أما في ثنائية(الصوت/ الصدى) فنقرأ للشاعر احمد الخطيب في قصيدته(سيرة اللاعبين):(38)
(( من يقود الصدى في الغناء
إذا صير اللحن ناقته
في براري الكلام))
وفي ثنائية(العمى/ البصر) نقرأ للشاعر زياد العناني في قصيدته( فصائد):(39)
(( أبدا
لن تستوي
مجرة الأعمى
مع غفلة البصير))
وهناك ثنائيات ضدية أخرى في الشعر الأردني لم نذكرها اختصارا وإيجازا، ونقول أن التضاد بصيغه المتعددة، يمثل اسلوبا يكسر رتابة النص وجموده ، بإثارة حساسية القارئ/ المتلقي ومفاجأته، بما هو غير متوقع من ألفاظ وعبارات وصور ومواقف ، تتضاد فيما بينها، لتحقق في نهاية المطاف صدمة شعرية يتعالى بها النص على قارئه(40) ، ويحلق في فضاء جمالي خاص، ويحرضه على الحوار والتفاعل وإعادة انتاج المعنى ، إذ((ليس هناك نص أدبي لا يخلق من حوله مجموعة من الفجوات والفراغات التي يجب على القارىء أن يملأها))(41)،ولعل التضاد من أكثر الأساليب قدرة على إقامة علاقة جدلية بين النص من جهة والقارئ من جهة أخرى(42) .
المعجم الشعري
إن مجالات دراسة المعجم الشعري متنوعة وكل مجال بنتائجه،بخاصة وأنه يمثل اختيار الألفاظ وترتيبها وفق طريقة خاصة ، بحيث تثير معانيها خيالا جماليا ، فهو إذن يمثل التميز الذي تفرد به النص الإبداعي(43)،فإذا أردنا أن نحيط باللغة الخاصة لشاعر ما ، فلنحاول متابعة معجمه الشعري و((تعد هذه القضية فنية خالصة ، وهي مستحدثات النقد الأدبي الألسني الوارد حول النصوص السردية والشعرية معا))كما يتفرد كل شاعر بمعجمه الشعري، الذي هو مفتاح النصوص، وهو الذي يحدد هويته الإبداعية ، ف((إذا ما وجدنا نصا بين أيدينا ولم نستطع تحديد هويته بادئ الأمر، فإن مرشدنا إلى تلك الهوية هو المعجم الشعري))(44)، كما يتشكل المعجم الشعري((من لازمة نفسية هي بلا شك تمثل اسقاط اللاوعي على الوعي، وما يترشح عبر ذلك من تكرارات(نفسية ـ فلسفية ـ فنية) تتبلور على هيئة ألفاظ سلطوية لا قدرة للناص على تجاوزها أو محاكمتها أو وضعها بصيغ خاصة))(45).
وينبغي أن ندرك أن المنطق لفهم الشعر هو إن((اللغة الشعرية رمز العالم، كما يتصوره الشاعر،كذلك هي رمز الشعار النفسي للعالم،لابد أن نفهم الشعر على هذا الأساس))(46).
ويتشكل المعجم الشعري في غالبه من مجموعة ألفاظ لا قصدية ، ومن(( هذه الألفاظ اللاقصدية تتمظهر عنونات لا متفق على تسييسها كتابيا، ومن ذلك ما يقع تحت افتراضات العنونة ك(أسلوب الشاعر) أو (خط الشاعر) أو(نفس الشاعر)،هذه بعض افرازات المعجم الشعري))(47)
كما أن دراسة الألفاظ بمعزل عن تراكيب الجمل لا يأتي بثمار، والإحصاء يبقى من دون نتائج ، كما لا يجب إغفال أهمية تعلق الألفاظ المكونة لجملة أو لشبه جملة بعضها ببعض في تحديد الدلالة(48)، ويقول الدكتور محمد مفتاح:
((إن المعجم الشعري هو وسيلة للتمييز بين أنواع الخطاب وبين لغات الشعراء والعصور ، لكن هذا المعجم يكون منتقى من كلمات يرى الدارس أنها مفاتيح النص أو المحاور التي يدور عليها))(49)
أما كيفية قراءة المعجم الشعري فتكون بمتابعة الألفاظ المستخدمة من قبل الشاعر إلى جانب متابعة ترتيب الشاعر للألفاظ،ف((الألفاظ حقول والجمل ظواهر))(50)،
ونختصر كل هذا الكلام ونقول المعجم الشعري هو:عدد مرات تكرار كلمة ما في نص معين: مثال:
قرأنا قصيدة الشاعر فلان ، فوجدنا أن كلمة أو مفردة(الحزن) مثلا قد تكررت في القصيدة عشر مرات، وكلمة (الليل) تكررت سبع مرات وهكذا.. فلمَ تكررت هذه الكلمات وكيف تكررت؟… هذا هو اختصاصنا وهذا هو عملنا.
فاستنادا إلى مقولة فلوبير:((ما يعذبك،يعذب أسلوبك في الكتابة)) يقرر أدونيس في ثلاثيته (القاهرة التي علمتني) إن معظم النصوص التي تكتب اليوم احتفاءً بالراهن، العادي، اليومي تفتقر إلى مثل ذلك((العذاب)) بما يعني تبنيه الصريح لموقف (فكري/ جمالي) مضاد من راهنية وعادية وعرضية النصوص الجديدة، في محاولة كما يبدو لمفهمة متوالية (اليومي) واختباره بوصاية أبوية إزاء (الميتا ــ لغوي) كما تجدد ايدلوجيا العمود الشعري انبعاثاتها بصيغ مختلفة ، للالتفات على مستوجبات الحدث النثري، فالكاتب الذي لا نرى في كتاباته عذابا ــ برأيه ـ إنما يقول ما يقول بشكل إعلامي اخباري، ولا يكون كاتبا إنما مجرد ناقل أو راوٍ،(51)
إلى هنا نكتفي بما ذكره فلوبير وأدونيس،ونذهب إلى غاستون باشلار حيث يقول::(( البيت هو ركننا في العالم ، وإذا طالعنا بألفة ، فسيبدو أبأس بيت جميل))(52)
وخلاصة هذا الكلام إن المفردات في القصيدة تتشكل كما قلنا في دراستنا النقدية المنشورة في جريدة الزمان اللندنية وفق أسلوبين هما:
1.أسلوب الوعي
2.أسلوب اللاوعي
فأسلوب الوعي، هو ما يمكن أن نسميه ب( التكرار الفني)، ونضرب مثلا في قصيدتي( مذكرات سيف)، فقد كررتٌٌ كلمة(قل) متعمدا وعن قصد أكثر من عشرين مرة،
أما أسلوب اللاوعي، فهو أن تكرر الكلمة في القصيدة بشكل غير متعمد وغير مقصود ،وهذا ما أسميه(إسقاط اللاوعي على الوعي)،فإذا أحصينا مفردة (الظلام) مثلا لدى الشاعر الفلاني في إحدى قصائده، نجد أنها تكررت في القصيدة دون وعي الشاعر وسيطرته عدة مرات، ومثال على ذلك لا تكاد تقرأ قصيدة لشاعر فلسطيني ـ أي شاعر ـ إلا وتجد مفردة(البيت ـ الوطن) وقد تكررت عشرات المرات حتى لو كان النص يتحدث عن الحب أو الحرب أو أي موضوع آخر، وفي الغالب إن تكرار هذه الكلمة قادم من ضمير الشاعر لا من وعيه ، وهو كما قلنا(حاجة نفسانية ـ فلسفية ـ فنية)،
وهذا ما يذكرني بقصيدة الشاعر الراحل العراقي الأردني الفلسطيني محمد القيسي(اللطائف الست)(53)حيث يقول:
(( ذهبت إلى أقاصي الأرض
ولم أعثر عليك
تقطعت سبلي إليك
وضعت عن بيتي))
ولنعد إلى موضوعنا( المعجم اشعري)، فقد وجدنا أن الظرف الزمني(آن) قد تكرر في قصيدة الشاعر حكمت النوايسة (آخر الأثلاث)(54)(8مرات)،والسبب أن الشاعر لم يجد بُدا من محاكمة الماضي إلا باستحضاره واستنطاقه ومحاكمته في الزمن الحالي الآني(الآن).ونجد ضمير المتكلم(أنا) قد تكرر في القصيدة نفسها(16 مرة) وهذا دليل على اشتغال النص على الأنوية التي تعمل في المسافة المائزةبين (الذاكرة) و(الرؤيا) كما يقول الناقد المعروف ا.د. محمد صابر عبيد، وهما المرجع الخصب للتجربة و للخبرة والزمن الذي يموّن القصيدة بصدى عميق ومقطّر وغني بالظلال والألوان والأخبار والحكايات التي تفتح بوابات القصيدة على نداء قادم من أقاصي الحلم يضاعف من طاقتها على الاستشراف وقراءة الايدتي والغامض والماورائي.
وفي قصيدة (وطن) (55) وهي قصيدة قصيرة للشاعر(موسى حوامدة)،نجد أن كلمة (وطن) قد تكررت(8مرات) وهذا هو إسقاط اللاوعي على الوعي كما قلنا، حيث الوطن عالق في ذهن وضمير الشاعر الفلسطيني وهو يصرخ في وعيه أو لاوعيه( وطن.. وطن) على الرغم من أن الأردن وطن الجميع، ولا أنسى آخر كلمات الروائي الفلسطيني مؤنس الرزاز، حينما قال((طردتني العواصم واحتضنتني عمان)) نعم الأردن بلد الجميع.
وفي قصيدة (أضع كل شيء) ( 56) للشاعر زهير أبو شايب نجد أن فعل الأمر ـ أضعْ ـ قد تكرر(10مرات) نقرأ منها :
* أضع كل شيء
* أضع راسك
*وأضع خطواتك
* أضع جسد امرأة
* أضع ظل عمتك
* أضع دم حجر
* أضع كل درب… الخ
والواضح من هذا الضياع الذي يأمر به ويتمناه الشاعر أن شيئا كبيرا قد ضاع ، فما فائدة ما تبقى؟ إذا ضاعت القدس مثلا فما فائدة أشياء أخرى!
وفي قصيدة الشاعر رزق أبو زينة(قصائد)(57) يتكرر فعل الأمر(22 مرة) وهو أمر بصيغة رجاء ومحبة ، دعوة للاطلاع على عمق وأصالة حب الشاعر لوطنه الأردن وهذه دعوة سامية ونبيلة.
ولنقرأ مقطعا واحدا من قصيدة الشاعر محمد القيسي المقطعية(ست قصائد لحالات مقيمة)(58):
(( يا بلادي التي لم أبعها
ولم أنسها ذات يوم
ها أنا من جديد أغني الرصيف
وأدرج وحدي يتيما
ولا أي يتم
انتحي جانبا وأنادي عليك
انظريني هنا
وانظري يا بلادي مغنيك يذبل روحا ويذبل فم
يا بلادي التي لم أبعها
ولم أنسها ذات يوم
ليس لي في حناياك بيت
ولست اسمي الذي بيننا يا بلادي عتابا
ولوم
فأنا أنحني لأبوس التراب
وأنهي على عتباتك
أطول صوم))
فكم مرة تكررت كلمة( بلادي) ولماذا؟!… الجواب هذا هو المعجم الشعري.
وفي قصيدة (صباح برائحة اليقين)(59) للشاعر نضال برقان،تكرر شبه الجملة(من أين)(8 مرات) على الرغم من قصر القصيدة، وهذا التساؤل هو خوض عجيب في بحر الألم( من أين أمسك بالدقائق/ من أين أصعد للدماء/ من أين اهرب من علامات السؤال….الخ من التساؤلات الضاربة في جذر الألم الانساني الأعظم).
ونختار مقطعا قصيرا جدا من قصيدة(البحث عن النوار الأبيض)(60)، يقول الشاعر مهدي نصير:
((أمامك روم
وخلفك روم
وفي برعم القلب منك ضجيج غزاة!))
فعلى الرغم من هذا التناص مع قصيدة المتنبي المعروفة، إلا أن الشاعر هنا كرر كلمة(الروم) مرتين مع الإصرار المتعمد وهذه حسنة لصالح الشاعر مهدي حين أضاف( وفي برعم القلب منك ضجيج الغزاة!)
وفي قصيدة (تداعيات قروية)(61)للشاعر راشد عيسى، تكررت كلمة(قروي)(5مرات) على الرغم من قصر القصيدة، وهذا إسقاط واع على النص، حيث يتمسك الشاعر بجذوره الأولى غير مكترث بإغراءات العصر وإغواءاته:
((ليست تدهشني شفة حلوة / ليس يدهشني النهد/لست أعنى إذا الكحل زين عينيك…الخ من مغريات العصر التي لم تمنعه من التصريح بأنه قروي.. قروي)
وفي قصيدة (حوارية في مقام الليل)(62) للشاعر محمد محمود البشتاوي يتكرر الفعل الماضي(قال)(21مرة) والسبب في تكرار هذا الفعل أن الشاعر يشتغل في قصيدته هذه على مرحلة من التجليات والتهجدات والمخاطبات التي اشتهر بها العالم المتصوف (النفري) وهي وصايا بين( الشيخ ومريديه) أو (بين المتبوع والتابع الدرويش) ويمكن تصور هذه( الوقفات) على وفق ثلاث حركات تتشكل أو تنبثق من عنقود أفعال ماضية(63)، تبدأ بالوقوف بين يدي الشيخ أو المعلم، التي تبدأ دائما بجملة (أوقفني=فعل+فاعل+مفعول به)، ثم تبدأ التعليمات أو النصائح التي يوجهها الشيخ إلى المريد، وهي تأتي بصيغة فعل ماض(قال)، وتكون إجابة المريد بالفعل الماضي (قلتُ) أو(أجبتُ)(64)
ومن طرائف المعجم الشعري في الشعر الأردني ما قرأته في قصيدة(سأبدأ بالسين..!)(65)للشاعر د. محمود الشلبي( والذي لا أعرف إذا كان شاعرا أردنيا أم من قطر عربي آخر.. ولأعترف هنا أنني لم أكن متأكداً من أغلب الشعراء الذين ذكرتهم في دراستي هذه إنهم بالفعل شعراء من الأردن.. وفوق هذه المصيبة فإنني تجاوزت عددا كبيرا من الشعراء الذي كنت أظنهم ــ ظلما وعدوانا وأنا بريء بأنهم غير أردنيين! ـ ومؤكدا أن الذنب ليس ذنبي.
ولنعد إلى قصيدة الدكتور الشلبي، وهو يقول أن(السين حرف تنفيس) وهذا غير صحيح فالسين حرف استقبال و(سوف) حرف تنفيس وتراخ… ما علينا كما يقول كمال أبو ديب،لنذهب إلى المعجم الشعري في القصيدة،فقد أدخل سين االاستقبال على(21 فعلا مضارعا)، وبدلا من أن يصنع لهذه القصيدة معجمها الشعري الخاص، أدخل نفسه في (مغامرة لغوية) أرهقت القصيدة وترهلت بهذه(السينات المحشورة حشرا مع عناقيد من الأفعال المضارعة) التي أخفقت في أداء دورها في التعالق اللغوي الذي من شانه أن يصنع قصيدة ذات إبداع خاص.
وفي قصيدة (باب الخماسين)(66)للشاعر احمد الخطيب، تكرر شبه الجملة(على مهلك)(13 مرة)، وهذا التكرار دعوة لإعادة النظر في تقييم وتقويم الأشياء، نقرأ واحدة من دعوات التمهل:
(على مهلك
يفتح عمرك باب الخماسين
أو يقرب الآن من شجرة في العراء))
ولاشك أن هذه الدعوات نابعة عن قصدية واضحة وليس لللاوعي دخل بها.
وختاما.. نقول لقد حددت اللغة مسميات الأشياء فاتضح العالم للوعي البشري، هذا من جهة ،ومن جهة أخرى اللغة تحقق الذات والغير، ومع الحداثة الشعرية التقت الجهتان، ودخلت اللغة في حوار مع الأشياء التي لها لغة لايفهمها إلا من يعرف فك الشفرات والرموز كما يقول أدونيس(67) فيدخل هذا الانسان في حوار مع العالم بكل مظاهره وبذلك يتحقق الحوار بين الانسان والوجود.
إن مهمة الشاعر هي البحث فيما خلف الأشياء والبحث عن الجديد للجمع بين الابداع والابتكار، فالكلمة عند الشاعر ينبغي أن تتجاوز مدلولها وتشير إلى أكثر مما تعبر عنه، فعلى الشاعر كما ذكرنا في بداية هذه الدراسة أن يثور على اللغة ويفجرها من الداخل فلا يستعمل كلمة إلا لتخلق موضوعا وتتشكل مع كل بنية أو تركيب جديد بحثا عن حقيقة ذاتية.

الهوامش والمصادر والمراجع

1. شعر ادونيس، البنية والدلالة،راوية يحياوي،منشورات اتحاد الكتاب العرب،سلسلة دراسات(1) دمشق،2008،ص17
2. في معرفة النص،دراسات في النقد الادبي، د. يمنى العيد،دار الافاق الجديدة ،بيروت،1983،ص105، وانظر:ازمة القصيدة (مشروع تساؤل) ، عبد العزيز المقالح،دار الاداب،بيروت،1985،ص85
3.النقد والحداثة ،عبد السلام المسدي،دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت،ديسمبر،1983،ص57
4.م.ن:57
5.محددات اللغة والفكر، في الثقافة العربية،مجلة عالم الفكر،مج32،ع2،اكتوبر،2003،ص125
6.بنية القصيدة في شعر عز الدين المناصرة،د.فيصل القصيري،وزارة الثقافة،عمان،الاردن،2006،ص146
7. وعي الحداثة، دراسات جمالية في الحداثة الشعرية،د0سعد الدين كليب،اتحاد الكتاب العرب،دمشق،1977،ص120
8.جماليات الاسلوب والتلقي،د0 موسى ربايعة،مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية،اربد ــ الاردن،2000،ص129
9. بنية اللغة الشعرية،جان كوهين: ترجمة :محمد الولي وزميله،دار توبقال للنشر،الدار البيضاء،1986،ص129
10.مجلة عمان،ع65،تشرين الثاني،2004،ص27
11.م0ن:32
12.المجلة الثقافية،الجامعة الاردنية،ع70،ص205
13.م0ن:201
14.بنية القصيد ة في شعر عز الدين المناصرة..ص145
15.م0ن:146
16.مجلة عمان،ع 85،تموز2002،ص65
17.مجلة عمان،ع164،ص61
18.مجلة عمان،ع157 تموز2002،ص72
19.المجلة الثقافية،الجامعة الاردنية،ع70،ايار2007،ص209
20.مجلة عمان،ع148 ت1،ص57
21.مجلة عمان،153،اذار،2008،ص74
22.مجلة عمان ،ع164،ص60
23. مجلة عمان،ع53، 1999،ص59
24.مجلة عمان،ع51،ايلول1999،ص59
25.مجلة عمان،ع66،كانون الاول2000،ص32
26.مجلة عمان/ع78،كانون اول،2001،ص73
27.مجلة عمان،ع90،كانون اول،2002،ص72
28.عناوين الجذور،شعر،محمد ضمرة،دار البيرق،عمان،2002،الصفحة5
29مجلة عمان،ع154،نيسان،2008،ص61
30.مجلة عمان/ع51،ايلول1999،ص57
31. مجلة افكار،وزارة الثقافة الاردنية/ع276،كانون الثاني،2012،ص51
32.مجلة عمان،ع165،اذار،2009،ص61
33.مجلة عمان،ع66، كانون اول،2000،ص33
34.مجلة عمان،ع90،كانون اول،2002،ص74
35.مجلة عمان،ع161، تشرين الثاني،2008،ص24
36.مجلة افكار،ع276..ص54
37.مجلة عمان،ع147،ايلول،2007،ص57
38.مجلة عمان،ع161،تشرين الثاني،2008،ص24
39.مجلة عمان،ع45،اذار،1999،ص57
40.بنية القصيدة في شعر عز الدين المناصرة..ص146
41.في نظرية التلقي،جان استاروبنسكي واخرون،ترجمة:د0 غسان السيد،دار الغد ،دمشق،2000،ص130
42.بنية القصيدة في شعر عز الدين المناصرة..ص160
43.شعر ادونيس،البنية والدلالة..ص73
44.تحليل الخطاب الشعري،استراتيجية التناص،محمد مفتاح،دار التنوير،بيروت،1985،ص58
45.انظر دراستنا:ثنائيات المعجم الشعري في(عندما اشتبك الضوء بالياقوت)،جريدة الزمان،لندن،العدد1562،التاريخ21/7/2003
46. تشريح النص،مقاربات تشريحية لنصوص شعرية معاصرة،عبد الله محمد الغذامي، دار الطليعة للطباعة والنشر،بيروت1987
47. ثنائيات المعجم الشعري000ص5
48.شعر ادونيس ، البنية والدلالة…ص92
49.تحليل الخطاب الشعري00ص58
50.خليل حاوي،دراسة في معجمه الشعري،خالد سليمان،مجلة فصول ،ع1و2 ماي،1989،ص48
51.وردت اراء فلوبير وادونيس في كتاب(شعرية الحدث النثري)محمد العباس،دار الانتشار العربي،بيروت،2007،ص11/من دون ان يذكر المصادر التي اخذها منها، واخذنا نقلا عن هذا الكتاب النقدي المهم.
52.جماليات المكان،غاستون باشلار:ت:غالب هلسا،سلسلة كتاب الاقلام(1) دار الجاحظ للنشر، وزارةالثقافة والاعلام،بغداد،1989،ص36
53.مجلة عمان،ع59،ايار،2005،ص65
54. اغنية ضد الحرب،شعر،حكمت النوايسة،سلسلة كتب شهرية تصدر عن وزارة الثقافةالاردنية،(35)،2005،الصفحة 9
55.شجري اعلى،شعر، موسى حوامدة،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،1999،ص48
56.المجلة الثقافية000ع72
57.م0ن:
58.مجلة عمان ع68
59.مجلة عمان،ع66،ص33
60.مجلة افكار،ع251
61.مجلة عمان ع54
62.مجلة افكار/ع210
63.انظر كتابنا:كلام المرايا(دراسات نقدية في الشعر والقصة والمسرح والرواية)،الشؤون الادبية،تربية نينوى(العراق ـ الموصل)،2011،ص78
64. م0ن:78
65.مجلة افكار،ع255
66.مجلة عمان،ع154
67.سياسة الشعر، ادونيس،دار الاداب،بيروت،1985.

 

* ناقد من العراق

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *