أمة الشهداء الكذبة تحكم أمة الأحياء


عزت القمحاوي *


في مثل هذه الأيام منذ عامين، كانت بلاد العرب تعاني ألم المخاض. قامت ثورة تونس، بينما كانت ثورة مصر تلوح كرأس وليد معلق بين ظلمة الرحم ونور الدنيا. وليد ظل نحو ست سنوات، وتصاعد طلق ولادته مع مقتل الشاب خالد سعيد على يدي عنصر أمن في يونيو 2010.
كانت الدعوة إلى الاحتشاد في يوم أعياد الشرطة نوعا من السخرية من جهاز قمع لم يزل يحتفل بذكرى استشهاد أبطال شرطة أخرى لا تمت إليه بصلة، مات رجالها في مواجهة جيش الاحتلال الإنكليزي في الإسماعيلية.
كانت رسالة الشباب واضحة: الوطنية رصيد لمن يؤمن بها، ولا يمكن لمن يقتلون شعبهم أن يسحبوا من ذلك الرصيد، لا يمكن لمن يهين الإنسان أن يحتفل بذكرى شهداء سقطوا دفاعا عنه.
بعد أن تحولت مظاهرة الهجاء إلى ثورة، ومن خلال تحقيقات أقل من عادلة تبين أن الجريمة تمت بالمشاركة بين المتشددين ووحوش ‘الأمن’ الذين خططوا لترويع مصر بحادث يهزها، ويدفعها تحت راية مبارك بسطوة الخوف. الحادث كان تفجير كنيسة القديسين في الحد الفاصل بين عامين، وقت الاحتفال ليلة رأس السنة.
هذه كانت اللحظة المصرية، وليس بوسعي التبجح بمعرفة تفاصيل اللحظات الخاصة في كل بلاد الربيع العربي، لكن الثابت أن وردات الربيع العربي تفتحت كلها في ذات التربة وذات المناخ. تونس اشتعلت استجابة لشاب فقير أضرم في نفسه النار بعد أن أهانته شرطية، مصر استجابت لمقتل خالد سعيد معززا بغموض حادث الكنيسة، سورية لإهانة الشرف القبلي المترتب على حبس صبية درعا، أما اليمن فلم يكن بحاجة إلى سبب أكثر من أن الذي يحكمه هو علي عبدالله صالح، كذلك كان وجود القذافي سببا كافيا لكي يثور الليبيون!
***
الدفاع عن الكرامة الإنسانية هو جوهر كل هذه الثورات التي فجرها شباب يقدسون الحياة، من دون أن تكون لديهم خطة للحكم. وكان هذا هو سر قوتهم وسر ضعف الثورات، لأن وجود خطة للحكم تعني وجود تنظيم مكون من قادة أو قائد ملهم وجماهير مطيعة، ومثل هذه المواصفات لم تكن موجودة إلا في تنظيمات الجماعات الدينية غير الراغبة في الثورة، غير المحبة للحياة.
كانت تلك القوى تدخر قوتها للحظة جني الثمار، وتحافظ على صداقة لدود مع النظام الذي تربت في عزه وبرعايته. كان التعاون واضحا منذ منتصف السبعينيات في مصر، بينما ظلت السلطة السورية الرافعة لشعارات العلمنة تستحي من اللجوء إلى هذا التعاون الخطر حتى بداية الولاية قبل الأخيرة للأسد الأب.
الاشتراك بين السلطة والمتأسلمين في جريمة ‘القديسين’ ـ ولا بد أن هناك ما خفي من الحوادث المشابهة ـ هو ذروة الافتضاح لعلاقة الطرفين، بينما ظلت ‘مهارشاتهما’ العلنية وسيلة معتمدة للسيطرة على مقدرات المنطقة. كان منتعل البيادة يحذر شعبه من شقيقه الملتحي: ‘هل تريدون أن تجربوا نار المتطرفين؟’ وبعد أن تبادلا المواقع يهدد الملتحي بعودة منتعل البيادة: ‘هل اشتقتم إلى حكم العسكري؟’.
الطرفان يتمتعان برعاية الغرب، وهذه الرعاية هي التي سهلت انتقال السلطة من العسكر إلى القوى الدينية، في ما يشبه مراسم التسليم والتسلم خلال نوبات الحراسة.
مبدأ الحراسة يقتضي أن يحافظ الحارس على الموجود ولا يضيف إليه، حيث تمثل الزيادة في الموجودات مخالفة تستوجب العقاب مثلها مثل النقص. وقد استراح الرب الغربي، واحتفل برأس السنة سعيدا، بينما وجدت بلاد الربيع العربي نفسها في قبضة خازن جديد يعرف مهمته جيدا، ويحافظ على المخازن بالآليات ذاتها.
***
بعد عامين من الثورة استقبل المصريون العام الجديد بدعاوى تحريم الاحتفال ببدعة رأس السنة، بل بفتاوى تحريم تهنئة الأقباط بعيد الميلاد المجيد، وبالإعلان عن مولد جماعة للأمر بالمعروف، وقد تم نشر أصحاب هذه الدعوات على الفضائيات التي كانوا يحاصرونها بالأمس، من الذي يروج لهم هكذا؟ ولماذا سكت الأمن على حصار المدينة الإعلامية والمحكمة الدستورية؟
في هذا الجو، يخطب حارس المخزن أمام مجلس تشريعي لفقه تلفيقا؛ فيتفوه بأرقام تكذبها الجهات الإدارية للدولة على الفور، ماضيا على خط الخازن السابق في العيش على عد البنكنوت لا تنمية اقتصاد دولة والبحث عن القروض والمنح وصكوك البيع، واعدا بتعمير الصحراء وكل ما لن يتحقق.
يتحدث عن الثورة وفي عنقه دماء الثوار الذين سقطوا أمام بوابة قصر الرئاسة بينما يتصدون إلى تغوله. وإذا كان المعلقون قد توقفوا أمام عجائبية الأرقام وعمومية الحديث عن نهضة كذوب في خطبة عضو حركة الإخوان محمد مرسي؛ فإن أحدا لم يتوقف أمام هذه العبارة العجيبة عن الشهادة: ‘ عرفت مصر عصور الشهداء، منذ آلاف السنين، واستمرت حتى سقوط الشهداء الأبرار في ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 وما بعدها إلى يومنا هذا، فنحن أمة الحضارة، وأمة الشهداء، فتحيّة إلى أرواح شهداء مصرالاطهار’.
العبد الفقير إلى عطف ربه لم يدرك أن ‘سقوط الشهداء إلى يومنا هذا’ يحوله من رئيس اسمي إلى متهم فعلي، فالشهداء لم يموتوا في مواجهة مع إسرائيل بل معه ومع جماعته التي حاولت رشوة ذويه كي يعلنوا انتماء الفقيد للجماعة، وكأن الاستشهاد غاية، أو كأن الموت سيجلب شرعية مفقودة بصرف النظر عن عدالة أو عدم عدالة قضية الميت.
الرجل الذي ينتمي إلى جماعة تسرق الشهداء، لم يدرك أن الذين هبوا في 25 يناير 2011 يقدسون الحياة لا الموت. وهم يدعون إلى الاحتشاد في 25 يناير الجديد من أجل محاولة جديدة لتأسيس أمة الحياة على أنقاض أمة الشهداء الكذبة.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *