أقاصيص


حنان بيروتي *


طفولة



بعد أن اشترى الرجلُ لها الحلوى هدأتْ، ربّت على كتفها كما يحدث مع أي طفلة باكية فانقادتْ بانصياع، لمحتُ دمعة طفولية تُذبَح في عينيها وحاجة للّعب مع أقرانها.. الحديقةُ العامة تمتلئ بالألعاب، بدا الطفلُ المرافق لها فرحاً منطلقاً، أخذ يتراكض حول المكان.. الصبية التي تقف على عتبة الطفولة المتأخرة بدتْ مقيّدة مثقلة، لكن سرعان ما انهمكتْ بمتابعة الطفل، بدتْ تشاركه اللعب ولا تلاعبه، ضحكات طفولية ضجَّ بها المكان فأسرع إليهما الرجل بثبات، خاطبها بصوت لم يسمعه المحيطون، لكن بدا واضحاً أنه طلب إليها الهدوء، انكسرتْ ملامحها لحظة ثم عادت للّعب والإمساك بالطفل.
كنتُ أصطحب أولادي للحديقة العامة، فزوجتي في عملها في «البنك»، ودوامها طويل، وثمة ساعات عمل إضافية تُفرض عليها آخر الشهر.. العطلة الصيفية طويلة وثقيلة على الأولاد، هم بحاجة لملء فراغهم وإبعاد الملل عنهم.. اقتربتُ من الرجل جالساً على المقعد الخشبي وقلتُ له بنبرة مَن يود إبعاد الملل بالثرثرة: «العطلةُ الصيفيةُ طويلة، أولاد هذا الزمن متعَبون ومتعِبون يريدون كلّ شيء.. هل تأتي بأولادك دائماً للحديقة؟».
بدا متضايقاً، فقررتُ الانسحاب بأقل الخسائر، لكنني رأيتُه ينظر إلي مباشرة بتحدٍّ وقسوةٍ قبل أن يقول بنبرة من يريد قطع الحوار: «هذا ابني وتلك.. زوجتي!».

أبواب



طرقتْ الباب بإلحاح، طالعتُ وجهها الطفولي من العين السحرية، لا بد من زرع العين الزجاجية في أبواب الشقق السّكنية المتلاصقة حد الاختناق.. بالكاد تتعرّف على الجيران، خمنتُ أنها ابنة إحدى العائلات القاطنة في العمارة السكنية، ربما تكون طالبة مدرسة، تبدو صبية في الخامسة عشرة، كانت ترتدي ثوباً محتشماً يشبه ثوب الصلاة مزركشاً بألوان هادئة، وجهها صافٍ يشع بأوائل الصِّبا وإشراقته.
قالت لي إنها تريد استعارة سكّين لدقائق. استغربتُ الطلب، فكرتُ وأنا أتهيأ لإحضارها من المطبخ أنهم ساكنون جدد لإحدى الشقق الفارغة، ربما لم يرتبوا المطبخ، الرّحيل ثلاثة أرباعه أغراض المطبخ الفائضة دائماً.. جاملتُها بابتسامة ترحيب موجزة قبل أن أهمس: «ثوانٍ وأحضرها… بس لازم تسَلْمي عَ الماما.. وإذا احتاجت مساعدة..».
هزّتْ رأسها مقاطعة: «لا، أنا… أنا العروس الجديدة!»، قبل أن تستدرك بسرعة أنها أضاعتْ المفتاح وتريد فتحه بالاستعانة بالسكّين. لا أدري لِمَ تذكرتُ ابني حين رجع من المدرسة ولم يجد أحداً، فأفسد قفل الباب بمحاولة فتحه بسلك حديدي، بدتْ مثله تماماً.. طفلة تحاول أن تفتح أبواباً كثيرة أُغلقت دونها.

حلم



أمسكتْ بالفستان، قلّبته بتأمُّل قبل أن ترفعه أمامها وتهز رأسها بتشكّك: «لا أدري.. ربما هو كبير قليلاً، أريد (نمرة) أصغر… ربما اللون الأحمر أفضل لطفلة في عمر الورد.. أو.. أرِني ثوباً آخر».
تزايدَ الزبائن حول البائع، أحسّ بضيق.. هذه المرأة استهلكتْ من جهده ووقته أكثر مما ينبغي. نظر إليها وهي تقلّب الفساتين وتُفاضل بينها وتستغرق في تفكير مَن يوشك على اتخاذ قرار مصيري، قبل أن ينشغل بطلبات زبونة أخرى اشترتْ بسرعة ومضت.
رآها تُواصل المفاضلة، قال لها بنفاد صبر: «لِمَ لم تأتِ بابنتك لتقيسي عليها؟ أحسن لك ولنا!».
قالها بسرعة وهو يرتب قِطَع الملابس المتناثرة ويعيدها إلى مواضعها بمهارة وسرعة، لم ينتبه لدمعة التمعتْ في عينيها، مَن يدري أنها استحضرتْ صورة ابنتها الملازمة لكرسيها المُتحرِّك.. أنها تعيش حلمَ أن تراها لمرةٍ مرتديةً فستاناً وتدور فرِحةً حول نفسها لفّات لفّات.. حتى ينفد العالم..



 


* قاصة من الأردن


( الرأي الثقافي )

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *