التصوف السني في محيط الثقافات


د. حكيمة الشامي

بادئ ذي بدء نشير إلى أن تصنيف التصوف بأنه سني، إنما هو على جهة التسامح ومجاراة لما اعتاد المثقفون المعاصرون ترديده على ألسنتهم وفي بعض أبحاثهم، وإلا فإن تصنيف التصوف إلى فلسفي وسني،

كما ذهب إليه المستشرقون، خاصة المستشرق الإنجليزي نيكلسون، إذ إن التصوف إما أن يكون سنيا، وإلا فلا يمكن اعتباره تصوفا رأسا.
ربما كان القصد من هذا التصنيف إلى بيان أن التصوف الفلسفي كان أكثر انفتاحا على الثقافات غير الإسلامية، كالفلسفة الإغريقية واليونانية والغنوص الفارسي، والإشراق الهندي، وهذا فيه نظر.
لقد دعا الإسلام إلى الانفتاح ما دامت الثوابت مصونة من التأثيرات الوثنية وما شاكلها.
أما «التصوف»، فله تعريفات كثيرة اصطفينا منها التعريف التالي: «التصوف هو التخلي عن كل دني والتحلي بكل سَني». سلوكا إلى مراتب القرب والوصول إلى رب العزة، وهو معاملة الله بحسن العبادة ، ومعاملة العباد بحسن الخلق، يقول السهروردي: «إن الصوفي من يضع الأشياء في مواضعها بحضور عقل، وصحة توحيد، وكمال معرفة، ورعاية صدق وإخلاص».
إن المتمعن في الخطاب الصوفي، وخاصة في شقه السني، لا يمكنه إلا أن يقف على مبلغ الفكر الصوفي، وعلى خطورة الاستمرار في حالة الانفصال عن الواقع، بل استطاع أن يتكيف مع بيئته، ويتغلغل في أعماق المجتمع. ولنا نماذج في التجربة الصوفية المغربية أمثال: الشيخ أحمد زروق ، والإمام الهبطي الكبير، والهبطي الصغير، ومحمد بن يوسف السنوسي، وعلي بن ميمون الغماري…وغيرهم كثير.
فالتصوف في جوهره يدعو إلى نهج الانفتاح والتفاعل مع جميع عناصر المجتمع، على اعتباره ركيزة أساسية لبناء المؤسسات الحياتية بمبادئها القائمة على العقل والمنطق. فالإسلام أراد أن يفتح الطريق أمام العقول الواعية لتقرر الأدلة على المعرفة الجازمة التي تنفي كل تبعية عمياء، وختم النزعات التي تؤدي إلى تعارك يعطل عمل الحياة، ويجعل الإنسانية عرضة للضياع والشتات.
ولذا جاء التصوف دليلا على الخير لا على الشر بعيدا عن الأوهام وصراع الإرادات والقوى، بعيدا عن الاستبداد والسيطرة، قائما على التفاعل مع جميع العوالم فيما بينها لصالح البشرية لا لصالح أفراد دون أفراد، والتحدي لصالح الحياة الفضلى، فيها يسعد الإنسان بحركته الوجودية بدون عنف وإكراه.
فقد اعتبر السراج الطوسي: «بأن الصوفية لا تنفرد بنوع من العلم ، ولا ترتسم برسم من الأحوال والمقامات دون رسم، وذلك لأنهم معدن جميع العلوم، ومحل جميع الأحوال المجردة والأخلاق الشريفة، سالفا ومستأنفا…».
ومعنى ذلك أن التصوف لا يقتصر على المباني والظواهر والأشكال الخارجية، يل يدخل في عمق الأشياء، وفي باطن النصوص من أجل كشف الحقيقة الحياتية والشرعية. ولا شك أن الفهم الصحيح للتصوف يشكل سبيلا لوقوع تفهم أكبر وتعامل أرحب مع الآخر مادام هذا التصوف الذي نعود إليه من قواعده احترام مبادئ القرآن والسنة والإجماع، وتطبيق شعائر الدين والسعي في الدنيا بحثا عن الرزق، وتمجيد العمل والشغل، لأنه زاد الدنيا والآخرة، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا مزرعة الآخرة».
هذا التعايش الذي نسعى إلى تحقيقه، بناء على قراءة متعمقة متأنية ومتبصرة، وليس مجرد الفهم الظاهري والوقوف على الشكل الخارجي والحكم على الآخر بموجب موقف معين أو حالة عرضية أو ما شابه ذلك.
كما عبرنا سابقا أن الصوفي هو المسلم النموذجي المجبول على حب السلم والسلام ومناشدة الأمن والأمان والأمانة، ولا شك أن تعلق علم التصوف بمراد الخالق سيعيننا كثيرا على فهم مقاصد التعامل مع الآخر، بناء على التكليف الإسلامي الداعي إلى اتباع أوامر الشارع المتضمنة لمراده ولمقصوده.
نستطيع أن نجزم أن التجربة الصوفية المغربية لها أثر بليغ على الحياة المجتمعية، فقد استطاع مشايخ هذا العلم أن يصيروه أخلاقا عامة «شعبية» يتخلق بها سائر أصناف الناس. وإن كان الكثير يعتبر أن التجربة الصوفية ذاتية فحسب، فإنها لا تزال بالغة الأهمية للحياة البشرية، إذ بمعزل عن الواقع وبمعزل عن الحكم على موضوعاته وموضوعيتها، له أثر ملموس في ثقافات الأمم ومساراتها.
من هذا المنطلق تنبع ضرورة الدفاع عن وجود التصوف في المدرسة المغربية وداخل الثقافة العربية الإسلامية، فالتشكيك فيه تشكيك في مشروعية العلوم الأخرى.
فهذا العلم في حاجة إلى إعادة الاعتبار لروح مواقف مشايخه الذين أدانوا الزيف في تكوين شخصية الإنسان المسلم، خاصة التجربة المغربية التي عرفت بانصهارها داخل كيان مجتمعها.
ختاما نقول إن التصوف السني يسعى إلى تحقيق التعايش الثقافي الذي هو تمثيل لمعنى العبودية لله تعالى والمحبة تجاه الآخر، كل هذا ما هو إلا دليل على الترقي والسمو في التعامل الإنساني، وفي هذا قال الجنيد رحمه الله: «لا يكون العارف عارفا حتى يكون كالأرض يطؤه البر والفاجر، وكالسحاب يظل كل شيء، وكالمطر يسقي ما يحب وما لا يحب».


شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *