أنيمْيَا” الفنّ والحرية


محمد الأمين سعيدي

-1-

ما بوسع قصيدة أو لوحة فنية أو معزوفة موسيقية راقية أنْ تفعلَهُ في عالم ترسمُ ملامحَهُ الأسلحة والسيوف الحاقدة القادمة من ظُلَمِ الجاهليات القديمة؟ إنَّه سؤال الجدوى، وفاعليّة الفنّ والأدبِ في عالم تنتصر فيه إلياذة العنف المؤسَّس وشياطينُ القتلِ على منظوماتِ الجمالِ، وتُرشَق في سوحِه أحجارُ القبح على مرايا الإبداعِ التي ينصبها الفنان في وجوه العابرين المثقلين بأعباء البيولوجية التي ترجع بـ ”الهومو سابيانس” Homo Sapien إلى الشجرة فارغا من الوعيِ بالتاريخ والوجود والنهاية. وإذْ تتّجِه بعضُ الشعوبِ بكلِ ثقة صوب المعرفةِ والعلم والفنّ، وهي أكثر الشعوب حظا في الحياة والحرية، تظلّ هي وغيرها على حدٍّ سواء سجينة ”الميديا الثقافية” والأيديولوجيات الخفية التي تؤطرُ الذوق العام، وموقفَ الإنسان من أخيه الإنسان، في صورة تسمها العنصرية والتعصب الفكريّ والدينيُّ بوسمٍ مقيتٍ يجعلها، برغم تقدّمها، عامرة بالكراهية والمواقف العدائية ضدّ ”بشرٍ أدنى” في منظورات متعصّبة تحتكم لقوميات ضيقة قميئة.

-2-

وإذا كان هذا الحالُ صبغة عالمية تتفاوتُ من مكانٍ إلى غيره بحسب ثقافة وتطوُّرِ الحياة وسيادة الحريّة، فإنّ العالم العربيّ، وهو يبدو أحيانا خارج التاريخ المعاصر، والذي عاش طويلا في ظلّ أنظمة شمولية تتخذُ من الاختلاف عداءً ومن التعدّد مؤامرة، وبرغم موجة التغيير التي حملها الربيع العربيّ إلى مناطق عديدة، فإنه ـ العالم العربيّ ـ لا يزالُ سجين الرؤى الأحادية التي تنهلُ من انتماءات ضيّقة تمارسُ شتى أنواع الإقصاء على الناس هنا، قبل أنْ تمارسه على الآخرين البعيدين، وفي كلا الحاليْن يمثّل الإقصاء والنفيُ قمّة العصبية التي ترسّخ شرعيتها المغشوشة باسم الدين تارة، وبأسماء مرجعياتٍ أخرى لا تزال غير قادرة على استيعاب القريبين من أبناء الشعب الواحد. وبهذا نصل للأسف الشديد إلى كون العرب عكسوا معادلة الأنا والآخر، بحيث أصبحوا يعيشون طوائف متناحرة كأنهم آخرون غريبون عن بعضهم، وتحوّلتْ العلاقة مع الآخر، والتي أثمرتْ في عصور عربية سابقة، إلى عداوة غير مبررة في كثير من الأحيان، ومثالُ ذلك اعتبار كل وافد من الغرب وإن كان ثقافة أو فلسفة أو فنًّا خطرا على الهوية من منظور كثير من التيارات والطوائف المنكفئة على ذاتها، الرافضة لأيّ اعتراف بغيرها: القريب العربيّ، أو البعيد الغربيّ.

-3-

تزداد رقعة الحرية ضيقا وانحسارا في العالم العربيّ، هل يمكن أنْ نعتبر هذا تشاؤما؟ لا يهمّ مطلقا السؤالُ، ما دام الواقع يثبت بأنّ حرية التفكير والإبداع لا تزال محدودة في أغلب الدول العربية، ومنعدمة تماما في غيرها. ومما يفجع في أمة كانَ، في ماضيها، يشدو أبو نواس بخمرياته حرا، ويجاهر ابن الراونديّ بأفكاره في ظل نقاش فكريّ وارف متحضّر، أنْ نجدَها في عصر الحداثة والتقنية وغزو الفضاء تحكم على الشعراء بالجلد وبالمؤبد بتهمة المساس بالذات الملكية أو الأميرية على وزن الذات الإلهية. وتصادر الروايات والأعمال الفنيّة فقط لأنّها تعبّر عن حق الإنسان في الحرية والهواء، وتقضي على الحريات والآراء، وتعطي للناس من تاريخها ما يتناسب وميولات طبقة معينة أو أيديولوجية بائسة سائدة، وهي علاوة على هذا تنزل الرقابة على كل شيء، وتسجنُ النساء، وهنّ أجمل مخلوقات الله، خلف جبالٍ من العقد والبداوة والتخلّف.

-4-

إنّ مثار هذا الحديث كلِّه هو بسبب واقع جامد أثبت أحاديتَه التي تضع كل من يحاولُ تغييرا في خانة الأعداء والخونة والمستغربين، وتؤسس لأجيالٍ من الأميين والجهلة مفرغة من تاريخها، ومن الوعيِ بلحظتها الآنية وما يقتضيه وجودها المعاصرِ من مساهمة في الحضارة الحديثة. إنّ هذا الواقع الذي تعيشه أغلب الشعوب العربية ينفيها خارج التاريخ، ويحوّلها إلى كائنات هاربة من ماضٍ يعلوه الغبار والأفكار البالية التي أكل عليها الدهر وشرب و”سلح”. فالحال الذي صارتْ عليه الحياة العربية تحوّلَ ذاتُه إلى جلاّدٍ يمنع أيّ خطوة صحيحة صوب التقدّم والحرية، وهذا طبيعي، إذ إنّ سيادة الأحادية ورفض الآخر على امتداد عقود زمنية طويلة جعلا من المجتمعات ذاتها تتقلّد بتميمة تمنعها من رؤية الجديد الذي يغيّر العالم، لدرجة أنّ الأفراد والجماعات قد تأقلموا مع هذا التخدير الذي طال الأفكار وأوقف سريان الحياة.

-5-

وإذ نعود إلى حديث الفن والأدب والمعرفة، يبدو جليًّا مدى الهوّة التي تفصل الفرد العربيّ عن منابت المعرفة والفن، ويظهر للمتأمِّل مقدار البطالة الفكرية التي تعاني منها الشعوب العربية، بسبب ظروف تاريخية وسوسيو ثقافية عديدة ساهمتْ في تجهيلِ الشعوب، وفصلها نهائيا عن الأفكار الجديدة التي تعزّز من حريتها وكرامتها. فأصبح الكتابُ، وهذه ميزة عربية، يُنشر لا ليُقرأ، وإنما ليوضع في الرفوف تقتات عليه كائنات الغبار، أو يصادر لا لسبب واضحٍ إلا إعلاءً لصنم ”الجهل المؤسَّس” على حسب تعبير محمد أركون رحمه الله. ومما يتّصلُ بهذا الحال، أنّ الكاتب والمبدع العربيّ عموما لا يحظى بالتقدير الكافي وبالاهتمام الذي يحظى به مبدعون في أماكن عديدة من العالم المتحضّر. ويظلّ المبدعون، برغم صعوبة الحال هذه، عرضة لبعض أدعياءِ الدّين الذي يتاجرون باسم الله ويشترون بآياته ثمنا دنيويا قليلا شاهرين سيوف التكفير في وجوه مفكرين وكتّابٍ لا تشوب إيمانهم شائبة، وكل هذا، للأسف الشديد، يحدث فقط خدمةً لأمير أو تملقا لسلطان، والأمثلة على هذه الممارسات من الواقع المعاصر كثيرة ويسهلُ الرجوع إليها.

-6-

إنّ الحياةَ آخذة في السير إلى الأمام تحت شمس الاكتشافات العظيمة التي فتحتْ آفاق الإنسان على الماضي والحاضر والمستقبل، وبرغم هذا، تظلّ الحياة عندنا راجعة إلى الخلف، متقوقعة، فارغة إلا من الخضوع والانقياد واجترار الكلام القديم الذي أفرزتْه ظروف تاريخية لا علاقة لها بنا اليوم. ولا ريبَ بأنّ سبب التخلّف الذي يجثم على رأس البلدان العربية هو الابتعادُ عن موارد الثقافة، والانعزال عن الواقع، وعن اللحظة الزمنية المعاصرة، وخير دليل على هذا هو أننا لا نزال نعيش في ظل أفكار قديمة غريبة عنّا متوهّمين بأنّ الأوائل كانوا أكثر فهما وإدراكا للأشياء وللحياة. وسنظلّ فارغين إلا من الجهل والبلادة حتى نبني من جديد علاقتنا بالفكر والعلم والثقافة والفنّ، ونسعى، كما تفعل كل الأمم، إلى المشاركة في الحضارة الحديثة بدل أنْ نكون مجرّد مستهلكين لمنتوجاتها.


( الفجر الجزائرية )

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *