النموذج الذي لا ينسى


باولو كويلو

«علمني العم خوزيه أن أحب الخيارات التي تتخذ من القلب وأظهر لي أهمية الخيال وجدوى القيام بما نرغب بغض النظر عن ما يقوله الآخرون»

اعتدت في طفولتي قراءة مجلة كان لدى والديّ اشتراك فيها، وقد احتوت أبوابها على قسم بعنوان “النوع الذي لا ينسى”، يتحدث فيه عامة الناس، عن أشخاص عاديين تركوا تأثيرا في حياتهم. وفي تلك الفترة، في ما بين التاسعة والعاشرة من العمر، كنت طبعا قد ابتكرت الشخصية الاستثنائية في مخيلتي.

وكنت متأكدا، من جهة أخرى، من أن هذا المثال الأعلى سيتغير مع مر السنين، لذا قررت عدم إرسال وجهة نظري حول الموضوع إلى تلك المجلة (وأتخيل الآن كيف كانوا سيتلقفون في تلك الأيام مساهمة شخص في عمري).

ومرت السنون، والتقيت بكثير من الناس المثيرين للاهتمام، الذين ساعدوني في الأوقات الصعبة، وألهموني، واظهروا لي المسارات التي يفترض السير على دربها، لكن الأساطير الرائعة خلال فترة شبابي، برهنت باستمرار على أنها الأكثر قوة وجبروتا. وهذه الأساطير تمر بفترات من التراجع والاعتراض والنسيان، لكنها تستمر في الظهور مجددا، في المناسبات الضرورية، بقيمها وأمثلتها ومواقفها.

ونوعي( النموذج الذي يحتذى)، والذي لا ينسى، كان يدعى خوزيه، وهو الأخ الأصغر لجدي. إذ لم يتزوج قط، وعمل مهندساً لسنوات عدة، وعندما تقاعد قرر أن يعيش في مدينة مجاورة لريو دي جانيرو، تدعى آرارواما، حيث كانت العائلة تمضي أيام العطلات، بصحبة أطفالها.

وخوزيه العازب ربما لم يكن لديه كثير من الصبر لتحمل هذا الغزو البشري، لكنها كانت الفترة الوحيدة التي يمكنه فيها مشاركة حيز متواضع من عزلته، مع أحفاد أخيه، وأبنائهم.

وكان خوزيه مبتكرا أيضا، وفي سبيل أن يستضيفنا جميعا، حينذاك، قرر بناء بيت لا تظهر فيه غرف النوم إلا في مواسم الصيف! يضغط على أسفل الجدران لإنزالها، فتظهر الأسرة والطاولات المحشوة من الجدران، وهذا كل ما يلزم لتظهر أربع غرف نوم لاستيعاب القادمين الجدد. وعندما ينتهي الكرنفال، ترفع الجدران، وتعود المفروشات إلى وضعها السابق، لتدخل في الجدران، فيتحول المنزل إلى سقيفة خالية، حيث كان خوزيه يحتفظ بأدوات المشغل.

إذ كان يصنع السيارات، وليس هذا فحسب، وإنما صنع أيضا مركبة خاصة يصطحب بها العائلة إلى بحيرة آرارواما، وهذه السيارة هي تجميع لسيارة جيب وقاطرة تسير على الدواليب. وكنا نذهب إلى البحر للاستحمام، ونعيش في الخلاء، ونلعب طوال اليوم، وكثيرا ما كنت اسأل نفسي: “لماذا يعيش العم خوزيه بمفرده هنا؟ فهو لا ينقصه المال وبإمكانه أن يعيش في ريو إذا شاء!؟”.

وكان يروي قصصا عن أسفاره إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث عمل في مناجم الفحم الحجري، وغامر بالذهاب إلى مناطق لم تدسها قدم إنسان من قبل، وكانت العائلة تقول على الدوام: “كلها أكاذيب”. وكان دوما يرتدي ملابس ميكانيكي. وأقاربه كانوا يقولون: “يحتاج إلى تحسين هندامه”. وعندما وصلت التلفزيونات إلى البرازيل، اشترى مجموعة منها، ووضعها في الممر، لكي يتمكن الشارع بأسره من مشاهدة البرامج.

علمني خوزيه أن أحب الخيارات التي تتخذ من القلب، وأظهر لي أهمية القيام بما نرغب به، بغض النظر عن ما يقوله الآخرون.. او اني عنده عندما واجهت مشكلات مع أهلي حين ما كنت فتى ثوريا في شبابي، وقد قال لي في أحد الأيام: “لقد اخترعت ناقل الحركة الأوتوماتيكي (هيدراماتيك)”. وفور ذاك، ذهبت إلى مدينة ديترويت في أميركا، واتصلت بشركة “جنرال موتورز” التي عرضت علي، إما الحصول على 10 آلاف دولار فورا، أو على دولار مقابل كل سيارة مباعة بهذا النظام الجديد. فأخذت عشرة آلاف دولار، وعشت أروع سنوات حياتي”.

وكانت العائلة تقول: “العم خوزيه دائما يخترع أشياء من خياله، فلا تصدقه”. وعلى الرغم من أنني كنت معجبا كثيرا بمغامراته وبأسلوب حياته وبكرمه، إلا أنني لم أكن أصدق قصصه. وقد رويتها للصحافي فرناندو مورايس، ليس لسبب معين، بل لأن العم خوزيه هو من طينة الرجال الذين لا سبيل إلى نسيانهم. وقرر فرناندو أن يتحرى الأمر، وهذا ما وجده ( حرر النص كما هو مقتبس من مقالة طويلة):

“ناقل الحركة الأول تم اختراعه من قبل الأخوين سترتيفان من بوسطن في عام 1904. لكن النظام لم يعمل جيدا، لأن الأوزان في ناقل الحركة كانت تنفصل باستمرار. واختراع البرازيليين فرناندو إيلي دو ليموس وخوزيه براز آراريبه، الذي بيع إلى شركة جنرال موتورز في عام 1932، هو الذي ساهم في تطوير نظام ناقل الحركة الأوتوماتيكي (هيدراماتيك) الذي أدخلته الشركة في عام 1939”.

ومع إنتاج ملايين السيارات العاملة بهذا النظام كل عام، فإن العائلة، التي لم تؤمن يوما بأي شيء كان يقوله العم خوزيه، واعتبرته سيء الهندام، كان من الممكن أن تحظى بثروة لا تحصى. ومن الجيد أن العم خوزيه أنفق العشرة آلاف دولار التي قبضها من جنرال موتورز، في قضاء أيام سعيدة.


 


( البيان )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *