المثقف.. ومزاجه العكر


عمار السواد *

سرعان ما نهرب من بعض الناس بمجرد ان نلتقيهم.

هم مقطبو الحاجبين، متأففون، صعبو المراس، سلبيون، مسيئون، عابسون، حادو المزاج، او دائمو التقليل من قيمة الآخرين والاشياء. لن يضيف هؤلاء لمجالسيهم سوى الشعور بالسخط على الحياة، وربما يتسببون في مجالسهم بفضاء من الكراهية.

على هذه الشاكلة يظهر نموذج من المثقفين، يشبهون الساخطين غير الايجابيين، الغاضبين الحاملين كره الناس على اكتافهم. لن يكشف المثقف «عبسه المرضي» عبر تقطيب الحاجب، بل في كتابات مقطبة، معنِفة، شاعرية، موغلة بالشخصنة والذاتية، تكشف عن ذروة الأنا التي تختفي احيانا وراء خدعة الحرص على المصلحة.

لست معنيا كثيرا باصطلاح النقدين البناء والهدام الجاذبين لأصحاب العقول الشمولية، ولكن المؤكد ان بعض النقد ليس نقدا بقدر ما هو سلبية وغضب بلا فاعلية. عند الغضب لن نجد الكثير، بل نجد مشاعر وتوصيفات ذاتية، بينما يبنى النقد على معطيات، ويعطي مبررات، ويستخدم المقارنات.

يبتسر بعض المثقفين باحة النقد المرنة بدائرة ضيقة من الاستهزاء والاستهانة والاحتقار، يتحولون من مساحة الانتاج الى زاوية اللاجدوى. حتى النيتشوية التي يراها هؤلاء المهووسون بغضبهم مرجعية، لم تكن كرها بقدر ما كانت مشروعا يهدف الى تفكيك الثوابت ونثرها في الهواء كي يسمح للآخرين القادمين فيما بعد ببناء شيء آخر.

ان نتعامل مع ظاهرة، حدث، فكر، شعر، شخص… فان المسؤولية تحتم على المثقف ان لا يلقي حالة اليأس او الغضب او الكره او اللاجدوى عليها، بل انه معني بان يدركها في البداية قبل اطلاق الاحكام. لأن الآراء التي تنبع من الحالات النفسية المتحكمة بمزاج المثقف هي اسقاطات اكثر من كونها تفاعلا مع الآخر.

الاسقاطات لا تختلف كثيرا عن الايدلوجيا، بل هي جزء منها، تختلف في جانب كونها اسقاطات ممزوجة بين الافكار والمزاج الشخصي، وهي تنتمي بالضرورة الى القراءة غير المبنية على اي معطى سليم، انها ربما تكون نقدا، لكنه نقد ذو منظار واحد.

ليس مسؤولية المفكر او المثقف تسديد الخطأ ووضع الحل المتكامل، الحلول ليست رؤية فرد بل هي تراكم معرفي تنتجه النخب من شتى المجالات عبر عقود وليس في عام او عامين. الفاعلية الثقافية المرتبطة بالمصائر تستند للنقد، للتحليل، لتشخيص ما تراه مخطئا، هذه هي مسؤوليتها الجوهرية.

بينما النرجسية والسخط النفسي وردات الافعال الغاضبة لا تنتج هذا النقد، بل تصنع صراخا، تعنيفا، توبيخا.. ربما يؤدي الامر الى الضغط ان كان الامر مرتبطا بنخبة واسعة، وهنا سيكون عمل المثقف اقرب الى نشاط المجتمع المدني، وليس نقدا بقيمة فكرية.

مثلا، في مواجهة التطرف الديني هناك قسمان من المثقفين، قسم يواجه الظاهرة بطريقة منظمات المجتمع عبر الضغط والتظاهر وجمع التواقيع، او الشتائم والسباب، او الاستشهاد والمواجهة في معركة قد تنتهي للموت.

القسم الآخر يعمد للظاهرة وينقدها بما يملك من ادوات وافكار وتصورات، يسعى لان يطلق ما يراه مناسبا من آراء وقناعات، سواء سمع الناس رأيه ام لم يسمعوا.. آراء الافراد مهما بلغت قيمتها نقديا لن تكون ذات تأثير مباشر وفوري، فالقصة ليست «زر كهرباء».

حتى السوداوية يمكن ان تكون مشروعا نقديا، ان خرجت من دائرة السلبية الى دائرة وضع كل ما يجري تحت مجهر النقد والتفكيك.. اما اصدقاؤنا العابسون فهم لا يملكون سوى كلمة واحدة «هذا المجتمع متخلف».. متناسين ان المجتمع المتخلف اكثر حاجة الى صوت النقد، ولكن ليس النقد الذي يثمر بعد يوم، بل مع الوقت والاصرار والشراكة والايمان بوجود آخرين يقومون بالمهمة ذاتها.

اما اولئك الناقدون الذين يعتقدون انهم يقولون رأيهم لمرة واحدة وانهم لابد ان يكونوا مؤثرين فورا، هم كجبان يصفع خصمه القوي فيهرب، معتقدا انه هزمه.

( القبس الكويتية )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *