بين ألف ليلة.. وليلى


محمد المغبوب *

( ثقافات )





نحلم نحن الذكور على وجه أخص بامرأة استثنائية ملفوفة في ورق سلوفان بلون الورد . امرأة فاخرة ترفل في ثوب من حرير بين مرة ، وثانية طرفه ينزلق على جسدها ، وسرعان ما تشده إليها. لعل أول الغوايات تكمن في إشارة عابرة ورقم هاتفها النقال.
باذخة بكرم عظيم تسوق لنا الأمنيات الطيبة ، والأحلام التي كانت مؤجلة. تهدهدنا ساردة علينا حكايات علي بابا ، وقوت القلوب .
امرأة لا تشكو عجزنا بل تنفخ في نار أنانيتنا ، وتجعلنا نشعر بتفوقنا العظيم علينا.
تعطي فقط تحبنا ولا تخوننا تسقينا عصير عنبها وتحلي ريقنا بعسلها امرأة واحدة بعينها تشبه نفسها فقط أكثر من ذلك
هذه المرأة التي نريد مستحيلة واستثنائية وهي من نرسمها حروفاً على الورق غير ملامحها الظاهرة .
المرأة صورتها على الورق الذي يسردها علينا هي تلك التي تسللت من الواقع الذي نراه قبيحاً إنها مثلاً لدى القاصة الليبية مرضية النعاس المنومة منذ الولادة بل قبل مولدها فهي امتداد لأمها ، وجدتها المقولبة في وضع اجتماعي ، وهي نسخة غير متناهية لعدد من الوجوه النسائية فلا حول لها لأن الرجل قد تآمر ضدها .
في قصتها ( نزوات الرجال يحميها القانون ) المرأة لا شيء طالما أن الرجل قد تزوج عليها. هذا ما نطالعه في القصة العربية ، وهي ترسم صور المرأة المتعددة ،فهي ضحية المجتمع الذكوري المغلوبة على أمرها .
شجرة اللذة ،براح الأنس ،خادمة البيت ،مربية الأطفال ،السكرتيرة ،الساقية الممرضة ،النادلة ،فلاحة ،موظفة ، فتاة الغلاف ، مسوقة الإعلان والراقصة; على هذا النحو فنحن ما زلنا في عصر الحريم وشهريار لم يمت.
إنني لا أبرئ الوضع الاجتماعي الذي نعيشه غير أننا ننسى ، ونحن نكتب القصص أن ذات الوضع نعيشه معاً ، وكأننا نتجاهل ما حصلت عليه المرأة من حقوق تحولت بها في بعض العواصم ، والمدن العربية إلى نسخة من المرأة في أي عاصمة غربية ، وبين قوسين ( لا أشير إلى أغاني الفيديو كلب وأكاديمي ستار وسوبر ستار ) .
انه السياق الذي أتبعته السرديات العربية ، وهي تتناول المرأة ، وتصورها على وجوه عدة ،غير أن وجه الجسد ظل هو الغالب في القصة.
هوليود سوقت النموذج الرجولي عبر ـ دوغلاس فيربانكس ـ طول ، وعرض وعضلات مفتولة حيث ساهمت في زيادة الاهتمام باللياقة البدنية لدى الذكور مشفوعة بأزياء أنيقة لكى يكسب الذكر انجذاب المرأة إليه ، وهو الذي حدث للمرأة بتقديم الوجه النسائي الجميل حيث تم تسويق السلع عبر الوجوه المصبوغة ، والعضلات المفتولة لترسيخ ثقافة الاستهلاك حتى تدور الآلة الرأسمالية ، وتنمط المجتمع بسلوك جديد نرى نتائجه الآن في حرب خاسرة بأنهارِ من الدماء
إن الجسد تم تناوله في السرديات العربية على نحو يسيل له اللعاب .
نجد الكثير من وصف دقيق للجسد الأنثوي لتكون الشهوة حاضرة بين يوسف و زليخة التي لم يلمنها الأخريات وهن يقطعن أصابعهن بدلا من تقشير التفاح .
أسأل : إذا كان الغرب في حاجة ماسة إلي الجسد الأنثوي لتسويق إنتاجه ، فما حاجة العرب له ، ونحن الذين نستورد كل شيء بما في ذلك الجمال ربما.
الملاحظ هنا هو تفريغ الجسد من القيمة الجمالية بعد عملية التوظيف الاستهلاكي له ; أعني الجمال الذي يسود العلاقة في حد ذاتها بما ارتضتها الطبيعة وأقرت بها الأديان.
وهنا أرد مقتطفين من قصتين لكاتبتين :
ففي قصتها ( اكتشاف بارع ومؤلم ) تقول القاصة الليبية شريفة القيادي
” لقد صار هو الرجل الذي وضعتُ نصب أعيني الاقتران به لأكون سيدة بيته وأم أطفاله ورفيقة دربه. كان هو أملي الأكبر الذي هفوتُ إليه وطمحت إليه نفسي وهو الحبيب الذي أنسج معه خيوط قصتي المشرقة ..” .
والخليجية هدى النعيمي في قصتها ( أنثى ) تقول:
” مدام؟ لماذا يطلق الجميع عليّ لقب مدام؟ لماذا اختفى اسمي منذ أنزرع ذلك الرجل في لحمي ، وأنغرس في مسامي “.
فشريفة ترضى بأن تكون سيدة للبيت ،وهدى ترفض أن تكون تابعة لزوجها . الحالة واحدة ومتعلقة بتكريس الذات دون النظر لطبيعة الدور.
أما زينب حفني الكاتبة من الجزيرة العربية حيث وضع المرأة تقريباً هو الذي عبرت عنه رواية بنات الرياض للكاتبة( ) ذلك الذي يشبه حجمه حجم جبل الثلج في المحيط أي لا يظهر منه إلا الخمس فقط وهذا لا يعني أن أكثر من ذلك نجده في بلد أخرى فزينب تعد من المتمردات على واقع المجتمع الذكوري وتطالب بأن يكون للمرأة الحقوق كاملة مساوية للرجل مع ذلك نجدها في هذا المقتطف من قصيدتها تقول:

“لماذا لا أصيرُ أحلى ولمساتُ أناملك تُدغدغ فؤادي
في صحوي ونومي لماذا لا أصبحُ أبهي وثغري يُردد اسمك
في الصبحِ والمساءِ لماذا لا يتوهّج جسدي
وأنتَ ترويني بلا قيدٍ ولا شرطِ ” ”
فهي هنا تنسى بالحب أن يكون الرجل مصدر سعادتها ولكن بل قيود ولا أي شرط .
إننا نلاحظ أن الكتابة تتم عبر العُقد الموجودة لدينا والتي لم نتخلص منها وهكذا بدأ السرد محامِ للدفاع تمارسه المرأة عندما تقص ، والرجل عندما يرد عليها ; هكذا تم إنجاز هامش كبير من المشهد السردي بسب عقد: عقدة السلطة ،عقدة الجنس عقدة الدور عقدة النقص الذاتي للشخصية والقصور في أدائها ربما حتى من كوننا عرب نعيش في مجاهل التخلف .
الذات هنا يجب أن تكون ذاتاً جمعية لا تعبر عنها الذات الفردية نتيجة تجربة أو تبني فكرة ما أو التعبير من خلال أيدلوجيا من أجل تحقيق الذات الفردية لدى القاص.قصصنا تكرر في هذا القرن نفس الصورة القديمة وتمارس عملية التوصيف للحالة ; صورة المرأة المقهورة التي هي حرم فلان. صورة المرأة العاملة وعلاقتها بالبيت . صورة الزوجة الثانية أو التي مال زوجها لأخرى ربما خادمة البيت التي من بلاد أخرى ولعل هذه الصور نجدها في النص الأدبي التي قدمته السينما خاصة المصرية حيث العلاقة غير المشروعة دينياً مع أي أخرى.
إنها الصور البشعة التي نجد د نوال السعداوي قد نصبت نفسها مدافعة عنها وهي أيضاً التي رسمتها المخرجة إيناس الدغيدي على الشاشة الكبيرة .
إن المبالغة الفظة في تناول الصورة الواحدة للمرأة نزع منها أية مشاعر تجاه القضايا العامة للمجتمع وحتى قضية الحرية ظلت مرتبطة بحرية المرأة من سلطة الرجل .
لهذا تشرنقت المرأة داخل خصوصيتها كأنثى وليست كجزء من كل ، ولم نجد صورتها إلا وهي تحاول نزع نفسها من المحيط لتعيد تشكلها في قالب غربي مثلما تنزع حجابها في الطائرة وهي تنزلق إلى لندن أو باريس أو مدريد لأن البلاد العربية بلد الأسوار كما تشير هدى النعيمي في قصتها رسالة إلى علياء:

( خطف من وجنتي قبلة لم أستعد لاستقبالها. أشرتُ إلى سائق التاكسي بشيء من الحذر وكثير من الاستحياء
ضحك .قهقه. قال : لقد خرجتُ من تلك الأسوار إلى مكان لا له سور ولا يعترف بالحواجز.ورغم علمي المسبق بما يقول . إلا أنني تظاهرتُ بالدهشة.. )
يبدو أن لدينا أزمة في الحياة العامة تسللت إلى أدبنا عموماً أدبنا الذي تناول آلة تصوير وأخذ يلتقط الصور وهي ليس جميلة على الأقل على النحو الذي نريد
أزمة أن نتناول المرأة كموضوع من جانبه الأنثوي ونطرحه داخل الجنس الأدبي نثراً وشعراً .
و أشير هنا إلى الشاعر نزار قباني الذي عبر عن هذه المرأة وفشلت هي عن التعبير عنها فإذا لم يكمل نزار جملته النسوية أفلا تحتاج المرأة إلى نزار آخر مثلما تحتاج إلى من يطرح قضايا المرآة التي تتعلق مثلا في وضعها الذي سيقوم إذا نجحت العولمة في بسط عباءتها علينا وقضاياها عندما يجف الثدي النفطي على سبيل المثال .
غير أن الشعور القديم بالقهر الذكوري الذي نجده يصرخ في وجوهنا ويطلع علينا من السردي والشعري نجده بإمهار امرأة واحدة بأسماء عديدة وعلى مختلف جغرافية الوطن العربي وأوتاده التي تشدنا إليه .
زينب حفني في إحدى مقالاتها تقول :
” ليس خرقاً للحياء أن تصيح المرأة بأعلى صوتها في أوساط مجتمعها، ما دامت ستُحرز لنفسها نصراً على أرض الواقع. وليس عيباً أن تطلّ المرأة من شرفة غرفتها، وتزعق بنبرة قوية ليسمعها كل من يمر بالقرب من منزلها، ما دام الهدف قشع سحب الضباب التي تحجب الرؤية في طريقها”.
وتضيف : ” سألني أحد الصحافيين: هل انتصرتِ في معركتك الوجوديّة؟! أجبته بأن الانتصار يعني أنك لملمت نفسك، وقفلت راجعاً إلى بيتك، تُضمّد جراحك، مردداً عفا الله عمّا سلف. لكنني ما زلتُ في ساحة المعركة، أصول وأجول بقلمي مع شريحة من بنات جنسي، آثر بعضهن الانزواء بعيداً معلنات يأسهن من التغيير، والبعض الآخر ما زلن يُجاهدن بشراسة لانتزاع حقوقهن. من أكثر المشاهد التي تُغيظني حين يتحدّث رجل باسم المرأة، كأن المرأة لا تملك لساناً ولا حجة دامغة ولا ثقافة متينة تؤهلها للذود عن حقوقها! “.
وتقول نثراً:
” عندما عدتُ لغرفتي وقفتُ أمام مرآتي. هالني مظهري ; الملامح نضرة. الشعر متوهّج.القلب يرقص طربا على إيقاعات شرقية احتارت نفسي.
أكل هذا بسبب جرعة حب خاطفة!!، أم نحن النساء كالأطفال الأبرياء.تطربنا كلمات حانية حتّـى لو كانت خاوية!!”.
وهنا أسأل زينب : .
– كيف يمكن للمرأة المقهورة المغلوبة على أمرها المسلوبة حقها في أن تحب وأن تكون كطفل بريء بسبب جرعة حب؟، وأسألها أيضاً: أين وجدت هذا المحب الذي غمرها حباً وهو عبد لا يملك قلبه الذي أحبها به كما قال لوركا في أحدى قصائده ؟:
( ما الإنسان دون حرية يا مارينا ؟
قولي لي :
كيف أستطيع أن أحبكٍ إذا لم أكن حرا ً؟
كيف أهبك قلبي إذا لم يكن ملكي ؟).
خاتمة
قراءاتي للسرد والنثر النسوي لأسماء كثر وجدت أن المرأة العربية لم تزل مهتمة بعلاقتها مع الرجل الذي يقهرها غير منتبهة أن الرجل نفسه قد تم قهره بأدوات عديدة وما شعورها بالظلم ليس إلا ارتدادا للزلزال الذي يضرب محيطه وتحت قدميه،وما هي إلا لسان حاله عندما تشكو منه متذمرة من دورها في المجتمع الذكوري الذي تحسب أنها غنيمة بلذة عارمة وحديقة بالمتعة مزدحمة، يحلو له العبث بها ليشبع حيوانيته التي تراها هي في عينيه وتحسبها لهفته إليها .
أحسب أن نصا ثورياً على المرأة أن تأتي به يفلح في رفع كل الأدوات الظالمة التي تحكمنا وبقلمها المبدع تبزغ لنا شمساً تذيب ثلج الحقب الغابرة وتقشع الضباب لنرى طريقاً جيداً كى نسلك دون خوف من يد تشدنا إلى الوراء ، وليس باستمراء الحالة الكربلائية بالصراخ في الهواء وضرب صدورنا بأيدينا عبر أجناس الأدب.
المرأة المبدعة بين جزيرة الملح هذه أجزم أنها قادرة على زرع حلم نبني عليه فعلنا الذي نتوق إليه ، فعلاً يتجاوز الحالة الراهنة كى يغيرها .
أليست امرأتنا في أدبنا النسوي هي بين شهرزاد في ألف ليلة وليلة وبين ليلى المريضة في العراق وليلى قيس وليلى كل ذكر منا ؟



…….
* روائي وقاص وشاعر من ليبيا


شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *