المجد لكتابة الفيسبوك



آمال عويضة

عندما دبت الحياة في شرايين الراديو، مات البعض خوفا على صاحب الجلالة الكتاب، وعندما خرجت إلى الدنيا أنوار التليفزيون ارتجف البعض رعبا من الرحيل المزمع للصفحة المطبوعة، وتكرر الأمر نفسه مع الفيضان التكنولوجي لوسائل الإعلام ما بين شبكة “إنترنت” تعبر القارات، وفضائيات تتجاوز الحدود، وشبكات تواصل اجتماعي لا مركزية يغفل متابعها أحيانا عن صاحبته وبنيه، وعلى الرغم من ذلك ظل للكتاب مكانته.

وبعيدا عن الجدل المستمر، يخرج كتاب “أيام الفيسبوك.. مسائل واقعية في عالم افتراضي” للكاتب الصحفى سعد القرش (المولود في يناير 1966) ربما لتميل الكفة لصالح الكتاب وقيمته كصناعة وثقافة. يقدم “القرش” في كتابه الصادر حديثا نتاج بعض ما دونه عبر حسابه الشخصي على شبكة التواصل الاجتماعي المعروفة باسم “الفيسبوك” ما بين أكتوبر/تشرين الأول 2010 ونوفمبر/تشرين الثاني 2011، مؤرخا لنفسه ولغيره عن قصد وبدون تعديل لآرائه التى تتعلق بفساد المؤسسة الثقافية والنظام السابق ككل، والتي طالما كانت سببا في علاقته الحساسة بالمؤسسة الثقافية الحكومية سابقا وحاليا.

ولا يتوقف ما يثيره الكتاب فقط عند قضية مجد الكتاب الذي لا يزول، وإنما يفتح الباب للنظر بجدية للتوثيق المطبوع للقول اليومي والتأريخ لما هو إلكتروني، وذلك على الرغم من ضيق البعض وشكواهم المتكررة من استنزاف شبكات التواصل لأوقات عملهم وفراغهم عبر ما يسجلونه من عبارات تتراوح بين الجد والهزل والثرثرة حول صورة أو مقال أو روابط يضعها أفراد أو جماعات.

• التأريخ للدردشة

يقول “القرش” فى مقدمة كتابه: “في صفحاتنا على الفيسبوك، كتاب الوجوه بحق، لا نخفي ملامحنا، نفتح صدورنا، ونقف أحيانا عرايا ولا نخجل؛ فالذين اخترناهم ليطلوا علينا أصدقاء، ولا نخشى لوم المتلصصين”.

وهكذا يؤسس الكتاب الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، لصداقة قارئ مهتم بالكتابة الجادة وعبر وعي أصحابها بأهمية الكلمة ولو جاءت عن طريق “الفيسبوك”، الذى يستخدمه البعض كملهى اجتماعى لاصطياد شريك مؤقت ليزجي معه الوقت.

وبينما ينجح “القرش” عن عمد في النجاة من مأزق الفضفضة بالتوثيق لكتابات الأصدقاء الحقيقيين والافتراضين المهمومين والمتفاعلين، تؤسس سلسلة “مدونات عصرية” ـ التي يشرف عليها الشاعر “السماح عبدالله” ـ لاهتمام حقيقي بالنتاج الإلكتروني المعادل ـ بصورة أو بأخرى ـ للحكاء التقليدي، وهو ما يجعل من السلسلة الوليد خطوة خارج الدائرة التقليدية لسلاسل الهيئة، ويضعها في مأزق اختيار فيما يتعلق بصعوبة التأريخ للدردشة الإلكترونية والتدوين بصفة عامة لما يتصف به السرد الحر من صعوبات تصنيفه أو تقييده.

• ما بين ذاتية التدوين وعموميته

على الرغم من وصف “القرش” لكتابه بأنه “بانوراما غير شخصية، غير موضوعية لأيامنا قبل الثورة وخلالها”، إلا أن الكتاب يأتى كشهادة شخصية تعبر عن هموم الكاتب، ليس فقط باعتباره مثقفا يربض وراء مكتبه ممسكا بقلمه، وإنما كناشط ثوري مهتم بقضايا وطنه وكرامة وحرية الإنسان الذي أصابته الأمراض الخبيثة وألجم لسانه الخوف ولقمة العيش ومات مثل شقيق الكاتب نتيجة لفساد الدولة وتجاهلها معاناة البسطاء.

لقد أصر “القرش” مثل غيره على البقاء في ميدان التحرير ولم يتركه إلا معهم استجابة لحلم مثالي في منح الفرصة لمن تولوا مقاليد البلاد لإدارتها دون ضغط الشارع، وقد سجل هذا كله لحظة بلحظة عبر حسابه الشخصي، ونجح في كتابه في المزج بين وصف حالاته وتعليقات الأصدقاء، فضلا عن تضمين مقالاته وروابطها التي وجدت مكانا لها فى صحف عربية فانهالت عليها تعليقات خطتها أقلام محبة لمصر، ودارت في معظمها حول الثقافة والمثقفين قبل وفي أثناء حلم ثورة الخامس والعشرين من يناير، ومنها ما يتعلق بـ “جمعة الغضب”، و”موقعة الجمل”، و”اعتلاء جابر عصفور كرسي وزارة الثقافة”، و”التنبؤ بالثورة بعد وقوعها”، ثم الوصف التخيلي لجنازة الرئيس المخلوع، وما كتبه بعد 9 أشهر بعنوان “آن لمبارك أن يتنحى”!.

إن “سعد القرش” الذي صدر له على مدى 20 عاما عدة مجموعات قصصية وروايات حازت إحداها جائزة “الطيب صالح”، وكتاب أدب رحلات واحد بعنوان «سبع سماوات» حصل على جائزة “ابن بطوطة” للرحلة المعاصرة، يعيد استخدام الانترنت واستغلاله كوسيط جديد، بدأب كاتب مجد استطاع مزجه دون تكلف ربما يعكس حرفيته كصحفي وروائي في اقتناص رحيق كتابة خالصة من غابات شبكات التواصل الاجتماعي ما كانت لتطير في الفضاء دون رجع صدى لتظل تدور إلى الابد؛ ولكنها استجابت لبهجة النوم بين دفتى كتاب مختلف يؤكد أنه مهما تعددت الأشكال فإن المجد للكتابة وحدها.


( ميدل ايست أون لاين )

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *