حرب الصورة.. وصورة الحرب


حاتم الصكر *

 
سعار الحرب المعلنة على فضاء غزة وبشرها تذكّر بالموت المُعلن في رواية ماركيز. لكن الصورة تُبرز حربا من نوع آخر: مخاتلة بصرية يتخفى وراءها الجنرالات ورعاة التطرف العنصري الإسرائيلي. يتخذون هيئة راءٍ مداهن يلتقط بانحياز ولؤم ما يريد أن تراه عين الآخر.. تنهمر قذائفهم ليل نهار من بارجات وطائرات ومدافع لتصيب عشواء ضارية كل مايقع تحت مرماها: بيتا، مدرسة، مسجدا، مصنعا، مقرا للصحافة، وربما مزرعة أو مصرفا.. تقتل في هدأة البيوت رضّعا يرحلون لمقابر تضيق بأجسادهم ومنهم توأم لم يبلغ الخامسة وأسر بأكملها.. لكن ما تسوّقه حربهم ترى العالم أطفالا يهرعون خوفا من صواريخ غزة إلى الملاجئ وشيوخا يرتبكون في هرولتهم في مشهد تستكمل عاطفيته المصنوعة صفارات الإنذار، وثم لقطات مكبرة للأطفال أنفسهم يلعبون في الملاجئ بينما يتلهى آباؤهم بصيد ضحاياهم ممن يناهزون أعمارهم.. ولكن بغياب آلات التصويرالتي تنتقي وتمنتج وتربط بسيناريو خلاصته أن شعب الله المختار معتدى على طفولة رعاياه، وليس له سوى الرد بهذه الطريقة التي أهدرت فيها حيوات قرابة مئتي إنسان في أسبوع الموت المعلن وأعاقت المئات وهدمت عشرات الشواخص المدنية.
 
تبدو الصورة مجندةً في جيش غير منظور يعبئ العالم الذي لم يعد بحاجة لتلك التعبئة فهو مأسور بالخطاب المؤسَّس على أساطير لفقت وصدقت من صانعيها أنفسهم وجرى من أجلها نحر الأضحيات البشرية التي كان جرمها الوحيد انها وجدت بجوار تلك المؤسسة المنبثقة من تاريخ فائق القسوة والعنف ولكن البارع التبرير والاختلاق.

بالصورة يحارب المتعطشون للموت. ترينا ما تراه وتريد تصديق فحواه.. بستان يدمر خضرته صاروخ قادم من غزة وهناك في هدأة شارع يلتم الصغار ليعاينوا مبنى مهدما. ليس من ضحايا. الكاميرا لم تستطع خلق موتى ولكن توهمت فزعا يختبئ خلفه المصور لا الخائف.. ولا بأس بأن تظهر الأم الشابة ورضيعها الملتف بثيابه في حضنها وهي تجري صوب الملجأ في إطار نعيق صفارات الإنذار. في الوقت نفسه تشتعل غزة من الجهات الثلاث ولا تبقى سوى جهة واحدة هادئة ومترقبة هي جبهة الروح التي لا تُرى ولذا لا ترصدها الكاميرات. هذا الموت المدبر بوحشية ينال من كل ما يقع عليه من جسد غزة والغزاويين ولكن الروح مغلفة بإصرار غريب لمواصلة الحياة. تسوّى المباني بالأرض ولا يراها العالم وتسير الأجساد للمدافن ولا تراها الكاميرات ويسود الظلام ولا بريق لنور ينبعث من صورة.. ظلام مطبق على الضمير الذي يفتح عينا واحدة ليرى القاتل متذرعا بالخوف من القتيل والسارح في بهاء الصورة ليكمل فكرة الضحية الأزلية التي لم يمل العالم بعد ـ وتلك هي المفارقة ـ من مواصلة شكواها وتبرير عنفها. لاعدالة في تمثيل الخوف: بشر يتراكضون ليحتموا كأنما من صوت الصفارات وآخرون يُنحرون بلا إنذار.

هي حرب الصورة إذن تلك التي تريد ان تجلو صورة الحرب، ولكن لا شيء من وحشيتهم يظل مطمورا في الذاكرة وإن لم ترصده الكاميرات

*ناقد من العراق

( الاتحاد )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *