على هامش عشق السيّدة


محمد صابر عبيد *

 إلى صديقي لؤي حمزة عبّاس * 

لا أدري إلى أيّ زمنٍ ملوّنٍ يمكن أن تعود قصيدة صداقتي مع لؤي حمزة عبّاس، هذا الجميل العذب الذي لم أرَ سمرة بهيّة مشتعلةً بالأمل كسمرته في حياتي، كأنما ظلّت البصرة تغزل خيوط سمرتها وتهذّبها وتعذّبها دهوراً عديدة كي تنتج هذا الوجه الرائق الأليف، وهو يختزل صورة البصرة بتاريخها وجغرافيتها وعراقيتها وجنوبيتها وعطرها الخلاّب الذي لا يُنسى، وجهٌ ذكيٌّ لمّاحٌ هادئٌ كأنّه كنزٌ بلا قرارٍ من السرد والحكي والشعر والورد بهالةٍ من نورٍ تومض في وجهي كلما تذكّرته، كان يظهر خطفاً في المهرجانات يسلّم عليّ بحبّ نادرٍ أتلمّسه كما أتلمّس زهو فراشة طالعة من صوت الريح فجأةً وهو يصافحني، أو يقدّم لي قصةً كتبها، أو مشروعَ رواية، أو كتاباً، وأظلّ مأخوذاً بسحر هذه الإطلالة الخاطفة تترك أثرها بحيوية لا يدانيها مكوث سنوات.

لم يغب لؤي عن حساسيتي الجمالية الإنسانية والثقافية والرؤياويّة مهما تباعدتْ بنا المسافات، وتعرّت الأقمارُ، وتحجّرتْ بيننا الأزمنة، إذ كانت صورته كما رسمتُها أول مرة ماثلةً في ضميري بجانب صور نادرة عسيرة التشكّل توغّلت في أعماقي بسلاسةٍ إلى درجة الخلود، وصافحتْ حرارةَ دمي لتقول لي بكل جرأة وبسالة إنّ الحبّ هبة سماوية حاسمة ليس بوسع المرء الاعتذار عن قبولها مهما قَسَى وطغى وتجبّر، كانت ومازالت واحدة من أجمل الهبات التي لم تبخل السماء يوماً ما في تمويني بها حتى وإن كنت صديقاً غير جيد لها ولا أعترف بزرقتها دائماً، وهكذا حلّ لؤي في وجداني كما تحلّ الفصول بغتةً في وجدان الطبيعة.

وحيث كان يهمّ لؤي أن أقرأ له ما يكتب بالتماساتٍ شفافةٍ لا تقاوَم، فقد وصلتني ـ قبل قليل من زمن تفجّر رغبتي في كتابة شيء غامض يتحرّش بأناملي ويوقظ فيها جذوة التمرّد والصعلكة والجنون ـ شهادتُه عن ((عشق السيدة))، إذ انفتح فيها على فضاء هو أكثر الفضاءات وجعاً وأخصبها إثارة لمرارة التذكّر، وظهر الأب (حمزة عبّاس) مبللاً بشوق لؤي ولوعته وسرديته، وربما ندمه الخفيّ، ظهر كأنه حارس أزليٌّ أمين عام للميناء، للبصرة، للمحبة، لزمن أم كلثوم، زمن المذياع العظيم وهو يقدّم صوت فيروز وأم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب وبقية العمالقة الأفذاذ كمصوغةٍ عذراءَ في يد صائغ مولعٍ بمهارته، أو يقطّره بين أيدي مسامعنا مثل رائحة أخّاذة لا تتكرر، فما زلت أنا ـ وبالتأكيد لؤي مثلي ـ حين نسمع المذياع نشعر بأصالة الصوت يتدفّق من أغوار البئر الأولى ويفيض من أفواه الينبوع الأوّل، ليس كما نسمعه في آلة التسجيل أو التلفاز حيث يبدو لسبب ما مزيّفاً طالته يدُ التزوير.

ربما تعرّفت إلى صوت السيدة مبكراً نسبياً لكنني لم أندمج به وأتعاهد معه على علاقة ما إلا في سنيّ الجامعة الأولى، كنت أقضي الأسبوع كله في مدينة الموصل، والعطلة في نهايته في زمّار القرية المهذّبة على أطراف الحدود السورية التركية، الأجواء معقولة في الأقسام الداخلية، غير أنّ عصر كلّ يوم كنت مع ثلّة من زملائي نحتفل بأنفسنا في شارع حلب والدوّاسة وحديقة الشهداء فهي مركز المدينة وحلمها الجميل، وينتهي الاحتفال بحضور فيلم في إحد دور السينما التي يعجّ بها شارع الدواسة ابتداءَ من سينما النجوم وسط شارع حلب حتى سينما حمورابي نهاية الدواسة، ولا بدّ من الجلوس ساعة في مقهى أم كلثوم، المقهى التي لا تقدّم سوى شاي بطعم لا يمكنك الاكتفاء باستكانة واحدة منه مهما كنت عزوفاً عن شربه، ولا تسمع فيها إلا صوت أم كلثوم، وعلى الرغم من أنّ صوتها قادم لك من آلة تسجيل إلا أن العشق الجماعي الذي تشترك فيه مع الجموع المصغية تنقذه من مغبة عشقك الوحيد لصوتها حين يتجلّى لك من دفء المذياع وسحره وجبروته، الفضاء مشبع برائحة صوتها ومختلط بعبق الشاي السيلاني الأصيل، والصمت النجيب الذي يحلّ بالمكان يأخذك إلى حيث تحبّ من التأمل والتطلّع والسَرَحان وتشييد الأحلام والتواصل مع نداءات الآمال بلا حدود.

لم أشعر في يوم ما أن أم كلثوم غابتْ، أو ماتتْ، فصوتها المحلّق أبداً في أحلامنا هو أكبر من كل أنواع الغيابات الممكنة، أو الميتتات المحتملة، صوت عابر للأزمنة والأمكنة والفضاءات والسطور، صوت قادم من غيهب المجهول، من الأقاصي، من بطون الليل الدفين، من غموض الفجر، من استرخاءة الشمس، من رطوبة القمر، من تماسك الجبال، من انفتاح السهول، من رهبة ليل الخليج، من نداءات البحار المغوية، من خوف الأمّهات على أطفالهنّ الوحيدين، من انتظارات العشّاق على أرصفة الرغبة الحائمة، من خفقة القلوب الضعيفة على الأحبّاء الغائبين، من ابتسامة الربيع المخاتلة في وجه المطر، من إيقاع القصيدة ودهشة القصّة، من خضرة الشجر، من حُمرة الطين، من بياض الحليب، من شهقة الندى، من سواد شعر تلك الفتاة الذي مازال يبطش في خيالي بكلّ مقصّات العالم بلا رحمة، فمن أين يمكن للغياب أن يأتيها، وكيف يجرؤ الموت على سرقتها من أسماع مئات الملايين، كيف؟

لم يكن أبي (صابر عبيد) يحب أم كلثوم على ما أظن بالرغم من أنّ له طاقة هائلة على الصبر صدّقتُ فيها مقولة (لكلّ امرئ من اسمه نصيب)، كان يحب فيروز ووديع الصافي وصباح وقد حضر حفلاتهم في بيروت يوم كان مقيماً في أحد مصحّاتها يتلقى العلاج من مرض التدرّن الرئوي أكثر من ثلاث سنوات، ومن يتوغل في حبّ اللون اللبناني والنساء اللبنانيات والمقاهي اللبنانية منتصف ستينيات القرن الماضي حيث عرفت ذلك من الساحرة المدهشة غادة السمّان، لا أظنه ينجح في قبول شريك آخر يجلس في أحضان عشقه حتى لو كانت أم كلثوم، وكنت أغفر لأبي هذا الإثم العظيم الذي لا يليق لأب قليل الكلام مثله أن يقترفه بحقّ ابنه البكر الذي سيعشق صوتها فيما بعد، فثمة أسباب كثيرة غير حقوق الأبوّة أرغمتني على إعلان هذا الغفران الذي لم أندم عليه قط.

حين زرت القاهرة أوّل مرّة مطلع صيف 1990 أدركت فوراً سرّ عشقي لصوت السيّدة، إذ هي في القاهرة أسطورة لا تختلف عن الأهرامات، أو المتحف الفرعوني، أو نجيب محفوظ، أو نهر النيل، حتى ظننت أن ضابط الجوازات في ميناء القاهرة الجوّي بعد أن يتأكد من سلامة جواز سفري سيسألني إن كنت أحب صوت السيدة أم لا، إذ لا يمكن لمن لا يحبها دخول الأراضي المصرية حتى لو كان يحمل جوازَ سفرٍ دبلوماسياً، يا إلهي كم كنت سأحترم الأمن المصري لو أنه اتخذ قراراً من هذا النوع بالرغم من أنه سيمنع المرحوم أبي لو كان زار القاهرة في يوم ما، وكم كنت سأشعر بحقّ جديد مميّز يضيفه لي صوتها العظيم.

سأعترف لك يا صديقي لؤي أنك أكثر ولهاً بصوت السيدة منّي، مع أنني بالتأكيد عرفته قبلك إذ أكبرك بعشر سنوات تقريباً، فليس من المعقول طبعاً أنك تسللت إلى حبّ صوت السيدة من خلفي وأنت في العاشرة، بينما أنا في هذا الوقت طالب جامعيّ أكتب شعراً وأنشره، وأعشق، وأحتسي البيرة، وأقضّي ساعات طويلة في مقهى أم كلثوم في شارع حلب يومياً تقريباً كي أنتشي بصوتها الصدّاح وهو يسرق الألباب من بداية شارع العدالة حيث تتوسطّه سينما الحمراء، إلى نهاية شارع حلب التي تتوسّطه سينما النجوم، لكنّ من لديه وقت فائض الآن لقراءة بَوْحَينا هنا سيكتشف بسهولة عناءك العميق بصوتها على حساب احتفالي الانفعالي بها، وسيغّلب ما كتبته أنت على ما كتبته أنا، ولن أشعر بالخسارة أبداً كونك تفوّقت عليّ في استكناه طاقة صوتها وعذوبة فضائه، لأنّ مقهى أم كلثوم تلك تحوّلت إلى محل خياطة، وسينمات شارع حلب وشارع العدالة والدواسة احتلّتها كراجات أو مخازن أو مطاعم للأكلات السريعة التي تفتقر إلى أبسط الشروط الصحية، وفقد الشاي السيلاني الزنكين عبقه وصار بلا طعم تقريباً، فلم أعد في فورة هذا الزوال العجيب أسمع صوت السيدة إلا لماماً.

كنت سأكتب لك عن أبي أكثر كما فعلت أنت بهذا الوجع النبيل تحت ظلال صوت السيدة واستعادة تلك الرائحة بهذه النشوة التي افتقدناها منذ زمن، لولا أنني كنت كتبت رسالة إليه بعد وفاته نشرتها في كتابي ((سيرة الجسد وصهيل المطر الجريح)) أصابتني بحمّى مرعبة، فكما ترى يا صديقي صرنا نعرف الخوف، ونتحسّب للنكسات الصحيّة، ونكتفي بأقصر المسافات التي توصلنا إلى مساعينا بأقل ما يمكن من الخسائر، أين ذهب ذلك الجنون والحمق والتمرّد والسطو على الثمار الجهنميّة وهي في أعلى درجات التهابها ولذاعتها دون وجل، لا بأس … طالما أن صوت السيّدة كلما لفحني على حين غرّة أشعر بالتوقّد، وبعزيمة لا تلين على المضي في مغامرة عشق في سبيلها إليّ، وعلى هذه النشوة التي تغمرني بها، تواصلاً معك

وأنت تصغي لبوحي من بين مواجع كثيرة لا حصر لها.

 

ناقد من العراق 

( الدستور – شرفات ثقافية )

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *