ذبابة تشيكوف.. وغراب ألن بو ّ


خيري منصور

 
قبل ان أقرأ لتشيكوف او حتى اسمع باسمه في بواكير طفولتي كنت قريبا من الخيل التي كانت جزءا حميما من حياتنا، وكنت أشاهدها وهي تحمحم وتزبد بغضب وتتلفت حولها بعيون شبه دامعة، ولم اكن ادرك السّبب، وهو ما عرفته فيما بعد، عن ذبابة كبيرة الحجم تطنّ حول كفل الحصان وتحوم على ذيله، فيحاول ان يطردها لكنه لا يستطيع، لفرط ضآلتها بالنسبة اليه، ولأنها تطن وتفرّ، واسم هذه الذبابة هو كما عرفته ‘ الشعرّانة ‘، ولا أدري من أين اشتقّ هذا الاسم في لهجتنا المحلية .
وتشيكوف كان حصانا بريا رغم كل محاولات التدجين، لهذا وصل صهيله الى أبعد مدى وكان ضجره من النقد في عصره لأن ذلك النقد كان يرصد ما يرى بالعين المجرّدة بينما ينظرتشيكوف بعيني زرقاء يمامة، فيكتب عمّا سوف يحدث وليس عمّا حدث فقط، لهذا كانت واقعيته من الطراز الفائق، ليس لأنه عرّاف او مٌتنبىء بل لأن المبدع الاصيل يرى الفراشة في اليرقة وعنقود التمر في البراعم، وحين بلغ الضيق ذروته لدى تشيكوف من النقد الاعمى ، قال انه يجول ويطنّ حول جسده كالذبابة التي تزعج الخيل، ثم اضاف من خياله…لعل هذه الذبابة تريد ان تخبر الحصان بوجودها .
والنقد في كل العصور باستثناء ما كان موازيا للابداع، هو طنين حول نصوص عصية على التدجين المدرسي، او التصنيف في خانات معدّة مسبقا لما هو واقعي او رمزي او انطباعي او سوريالي … الخ، لهذا كان مارسيل بروست هو فضيحة النقد في عصره لأنه لم يتناغم مع اجتراحاته لآفاق جمالية، وانتظرت اميلي ديكنسون حتى الموت كي يعاد الاعتبار الى منجزها الشعري، وهي التي ودّعت الحياة بعينين ساخرتين ودامعتين عندما رأت من جاء ليساعدها على الخلاص لحظة الاحتضار يسرق قطعة البسكويت التي وضعتها الى جانب قطّتها .
ذبابة تشيكوف او شعرّانة الخيل تتوق الى ان ينافس طنينها الرّتيب صهيل الحصان فتعيش على ذيله وليس على هامشه فقط، وهذا ما يحدث في ثقافة لم تتخلّ عن صحرائها وكثبانها حتى في الألفية الثالثة، وام جندب زوجة امرىء القيس التي طلّقت لأنها فضّلت قصيدة لعلقمة الفحل على قصيدة زوجها تحمل اسماء مستعارة عديدة منذ المعلقات حتى الجداريات ومنذ الملك الضلّيل الذي تقرّح جلده وتساقط ومات في جبل عسيب عقابا على استعدائه لذوي البعدى على ذوي القربى حتى شاعر القبيلة في حقبة ما بعد الحداثة، حيث ارتدى الجاهلي الجينز واستبدل الحصان بالسيارة، واستبدل كيس الدراهم في عكاظ بجائزة من العلقمي .
والكتابة عما سوف يحدث لا يتناغم معها بأي ايقاع فكري او نفسي نقد هو رهينة للماضي لأنه ليس فقط نموذجه الذي يقيس عليه، بل هو مرجعيته الوحيدة لأنه اسير مقابر محرومة من أية قيامة .
* * * * * *
ثمة نقد يتغذى ويعيش على دم النصّ وليس على حبره فقط، لهذا فهو يستدين من الابداع ولا يسلّفه، او يضيف اليه، والنصّ المتعدد من حيث قابليته لعدة قراءات وتأويلات يختنق بين الاصابع الامية الغليظة التي لو داعبت عصفورا لمات على الفور ولو حاولت العزف على البيانو لتحطّم .
حتى النقد الاكاديمي المنوط به دور تربوي واعداد جمالي يصاب بالضيق والاختناق اذا حلّق ابعد من المقبرة لهذا لا يجترح ولا يكتشف ولا يفاجىء، لأنه مدمن على السير في الطرق المطروقة التي تعج بالحوافر فوق الحوافر، وقد يكون أحدث نص أدبي في مقررات الجامعات العربية يعود الى النصف الثاني من القرن الماضي، فالحديث محظور الاقتراب منه لأنه يختبر الحساسية والذائقة والوعي، والنقد الداجن لا يريد مثل هذه المجازفات، لهذا فهو يكتب عن المكتوب عنه والمقتول بحثا لمجرد الاركان الى ضمانة تقيه شرور المغامرة .
لقد تخلى احد ابطال تشيكوف عن رهان اوشك ان يكسبه لأنه لم يعد هو نفسه الذي تعاقد على الرهان، والثري الذي طلب منه ان يبقى خمسة عشر عاما في غرفة لا يغادرها ليقرأ ما تراكم فوق رفوفها من كتب فوجىء بأن البطل افسد الرهان قبل ساعات قليلة من الفوز به، لأنه بعد ان قرأ كل ما قرأ وتأمل كل ما تأمل تغّير، وقد تكون تلك القصة مفتاحا ذهبيا لافتضاض قفل سمل الجهل ثٌقبه، وهو سوء التفاهم المزمن بل الأبدي بين ما عبّر عن شكسبير بسؤال الكينونة والعدم وما حوّره بعد قرون إريك فروم عندما اصدر كتابا عنوانه ‘ ان تملك او ان تكون ‘ وليس ان تكون او لا تكون، فالامتلاك لدى الانسان ذي البعد الواحد وربيب ثقافة الاستهلاك و ‘ التّقريد ‘ هو بديل الكينونة، اما ذلك الذّباب الذي استثار الصهيل فقد توارى الى الأبد، بينما يواصل الاثنان تشيكوف والحصان صهيلهما بكل اللغات .
* * * * *
لو قرأ مترجمو دور النشر التجارية التي تطبخ العجل او الديك الرومي على فوهة بركان ما كتبه جان روسلو عن تجربته في ترجمة غراب ادغار الن بو لاعتذروا لكل ضحاياهم من الشعراء والقراء عما اقترفوا وأعادوا الطبخ على ضوء شمعة او قنديل، فالرجل يقول انه اولا خفف اعباء الن بو وأخذ منه معطفه ومعوله ثم لعن معه أباه واخير توقف عند جملة واحدة من القصيدة ليقول بانه عاجز عن ترجمتها لأنها تحمل صوت ندف الثلج على سطح من القصدير ، ولأنها ايضا صوت الغراب عندما ينعق قائلا Never More وهذه الجملة ترجمها الراحل يوسف الخال الى : ما مضى لن يعود …
غراب الن بو ليس الليل الموحش الطويل المغطى بالزغب الفاحم، وليس صوت النذير الذي يصيب حتى الضجر بالقشعريرة، انه الوجود كله وقد تكثّف في نعيق امام باب موصد حيث لا شيء يتجول داخله غير الاشباح وما من احد يطرق بابه غير أصابع الليل السوداء . ما يكابده مترجم الشعر يكاد ان يقارب مكابدة الشاعر في الكتابة، فهو كما قال جبرا ابراهيم جبرا عندما ترجم شكسبير يتنفس من رئة صاحبه وكما قال سعدي يوسف عندما ترجم ريتسوس أصغى الى صوت انفاسه ولعلّ هذا وما يشبهه هو الذي دفع جيته الى القول بأن اشعاره عندما ترجمت الى الفرنسية اصبحت افضل مما كتبها بالالمانية، والفضل يعود الى جيراردي نيرفال مثلما يعود الفضل في ترجمة رباعيات الخيام بمستوى ينافس الاصل لفتزجرالد الذي ترجمها الى الانجليزية .
ما كتبه روسلو عن تجربته في الترجمة يذكرنا بترجمات عربية لأشعار كتبت بلغات اخرى لكن هذه الترجمات لا تتجاوز استبدال عملة بأخرى لأن الفارق بين نجّار الترجمة والصرّاف ليس كبيرا .
* * * * * * *
والآن ما الصلة العجائبية بين ذبابة تشيكوف او شعرّانة الحصان وبين غراب بو ؟ الذبابة تحوم وتئز لافساد مزاج حصان فرغ للتو من صهيل مبلل بدم فارس سقط عنه او بعرق النشوة في عيد من اعياد الجسد .
والغراب لا يجد ما يصطاده في ليل الغريب غير رجائه بشفق يحرره من الكوابيس واشباح العتمة واذا كان ما مضى لن يعود فإن ما سوف يعود لن يمضي هذه المرة ذلك ببساطة لأن مقابر ادغار الن بو حافلة بالعائدين .
ذباب وغربان وسلاحف مقلوبة على ظهرها ووطاوط يصيبها ضوء النهار بالعمى تلك هي المشاهد اليومية المتكررة لحياة لا تستحق ان تعاش .
فهل سينتهي نهارنا الأخير بغراب تعالى عن ما رأى ثم سال لعابه لحظة الغسق على ذبابة …؟

( القدس العربي )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *