صبــاح المدينــة( فصل من رواية )


جبور الدويهي *

خرج عبد الرحمن بكري من غرفة النوم حافياً بعد أن حاول عبثاً العثور على ما ينتعله اتقاء لبرودة الأرض، فهرول راقصاً بثقله المتمايل نحو دورة المياه تلبية لحاجته الصباحية الملحّة. لكن فجأة، وفي تكرار لعادة يومية بدأت تتحكّم فيه منذ شرائه التلفزيون الملوّن، وتعتقد زوجته أنه ربما لن ينهاه عنها سوى الموت، توقف وسط المساحة الفاصلة بين باب غرفة النوم ودورة المياه الواقعة تحت الدرج المؤدي الى الطابق العلوي، وراح يتلفّت باحثاً عن آلة التحكّم عن بعد ويده اليسرى تُمسك بسروال نومه المقلّم عند أعلى الفخذ. يقيم عبد الرحمن هذا، الملقّب بـ«المشنوق» في حيّ الأميركان المطلّ على النهر حيث لا حيلة للساكنين في الوصول الى بيوتهم سوى صعود الأدراج العديدة التي ترسم في الحارة أخاديد تشبه سواقي الماء التي يحفرها ذوبان الثلج على سفح الجبل، فيتعاونون على نقل الأثاث والمرضى أو يلجأ من تمكّن لخدمات عتّال من سوق الخضار القريب. يسكن عبد الرحمن مع زوجته التي تكبره سنّاً وأولاده الخمسة في بيت من الحجر الرملي هجرته منذ نصف قرن عائلة من تجّار سوق القمح المتوسّطي الحال ليستقرّ أبناؤها في أحياء المدينة الميسورة والمتقدمة نحو شاطئ البحر. ويحتفظ المبنى ببقايا وردة منحوتة هنا داخل مربّع من الرخام فوق الباب الكبير المصنوع من الخشب القطراني أو بقطع تطريز حجري متساقطة هناك على طول كورنيش السطح، تفاصيل غارقة في بؤس حاله الراهنة، لكنها تشي بوجود حياة ماضية في حيّ الأميركان، هذا قبل أن يجتاحه فقراء الجبال القريبة حيث لم تعد زراعة مشمش الأم حسين أو أي زراعة تكفي لسدّ رمق العيال. وقد اضطر لضيق الحال إلى الاكتفاء بالغرفتَين الأرضيتَين والفسحة التي يجري فيها كل ما تبقّى في النهار ويتوسّطها درج يصعد الى الغرفتّين العلويتَين من حيث يصل الصراخ المتقطّع لشريكه في السكن ابراهيم محسن في وجه أفراد عائلته. وما زال عبد الرحمن بكري يأمل في سرّه أن يضع ابراهيم تهديداته المشفوعة باليمين الغليظة موضع التنفيذ ويطلّق زوجته فيتمكن هو من الزواج بها وجمع العائلتَين في بيت لا يتقاسمه معه أحد.
هكذا أيقظ عبد الرحمن بكري، صباح يوم السبت، وقبل طلوع الشمس، أهل بيته وجيرانه على وقع أصوات مباراة في المصارعة الحرّة للنساء تجري داخل بركة من الوحل الملوّن بحضور حشد من الرجال المدخّنين البالغي الحماسة تنقلها إحدى المحطات الرياضية الأميركية. جاء الضجيج صاخباً ومفاجئاً للمشنوق نفسه فارتبك بين سعيه للعثور على زرّ خفض الصوت وبين الاستجابة لزحمته التي لم تعد تُطاق، فمرّت ثوان كانت كافية لخروج زوجته مرام مرعوبة تسأل من مات. اعتقدت في استيقاظها المضطرب أن قنبلة جديدة رُميت على الحارة كما صار يحصل مؤخراً، مع ساعات الفجر، بسبب تسلل عناصر من حزب التحرر العربي الى جوار خزّان الماء حيث يفتح أحدهم رمّانة يدوية ويرميها نزولاً على أدراج الحارة لتنفجر أينما اتفق فيُسمع بعدها رشق ناري أو رشقَان في الهواء. لكنها لما رأته واقفاً وقد تجاوزته الأحداث يعالج الصوت بصعوبة عادت الى الغرفة وهي تدعو الله أن يستر آخرتنا بينما أطلق الأولاد من غرفتهم صيحات استنكار جارحة رغم أنهم اعتادوا، مع سائر أهالي الحارة البرّانية على أذان الفجر من جامع محمود بك الملاصق، يتقلّبون قليلاً في فراشهم فور طلوعه أو يتلعثمون في الكلام في غفوتهم المعكّرة حتى ينتهي.
كذلك استيقظت فاطمة في الطابق العلوي على دويّ تلفاز المشنوق. كان قلبها يضرب مثل طبل كبير، فأبعدت عنها بحركة عفوية الصغيرة المدللة سهى التي كانت تتسلقها كشجرة، وتشدّ وهي تبحث في لهاثها عن يد ابنتها النائمة بين الأغطية، ترفعها الى فمها، تلصق بها شفتيها طويلاً وتتنفّس، تأخذ من ابنتها روحاً، هواءً، لا توقف قبلتها، لا تعيد اليد الصغيرة الى دفء الغطاء إلاّ عندما يهدأ روعها ويعود قلبها شيئاً فشيئاً الى انتظامه فتفتح عينيها وتحمد الله. لكنها تحس بالاجهاد فتسترخي من جديد، تستسلم للخدر اللطيف هذه المرة، تشعر بالبرد، يُسمع في الفسحة السفلى ثرثرة ضعيفة، لا تصغي سوى للذّة الكبوة الصباحية فتسحب اللحاف نحوها. تهدأ، تدفأ، تنعس، تنزل جسمها من جديد لتستلقي على كتفها الأيمن فترتخي وتغيب في غفلة الهناء الوحيدة بين منامات ليلها الصعبة ونهارها الطالع العابس. لكن لا تمرّ دقائق إلاّ وينفجر صوت مصارعة النساء مجدداً في ردهة عبد الرحمن بكري فتقرر النهوض وهي تقول:
ـ يا فتّاح يا عليم!
بدأ يومها لا مفرّ.
ترتفع الجلبة على أدراج الحارة، توقظ فاطمة أولادها الثلاثة، ترفع عنهم اللحف، تمشّط سهى أولاً، توجعها، تُلبسها وهي تصفقها بنعومة على فخذها لتذكّرها بأن لا تُخرج رجلَيها النحيلتَين من الفتحة الخلفية للحافلة وتلوّح بهما للمارة. تُلبس الصغير وهي جالسة وتوصي الأكبر سنّاً أن يُرجعه باكراً الى البيت، أن لا يصطحبه الى محل الانترنيت حيث يمضي وقته باللعب والنظر الى الصور البذيئة وأخيه واقف يتفرّج عليه، تكرر عليه أن لا يدع أحداً يسخر منه في الطرقات. تحمّله سندويشات الغداء، تحتار بماذا ترشيه كي يبقى لها فيه يد.
تُكمل ترتيب حلّتها وترافقهم الى الطابق الأرضي. يخرجون معاً، يجتازون حاجز البكري الجالس أمام التلفاز.
يمشون صعوداً على درج الحارة، ببطء، درجة درجة، وسط مياه مطر الليل، على ايقاع المريض بينهم صاحب الرجل الضعيفة والذي يشرد عن السير المتعِب بما يتوفّر له من تسلية، يتأمل صانع أبارقة القهوة يضرب النحاس الأبيض من الصباح الباكر بمطرقته الدقيقة، وتقلّده الصغيرة الفرحة بحصولها أخيراً على شنطة مدرسية يمكن تحزيمها على الظهر. تتابعهم يتسكعون حتى ينعطفوا يميناً عند رأس الدرج ليبلغوا الشارع العام حيث سيتفرّقون بينما تبدأ هي رحلتها نزولاً، صوب النهر وصوب المدينة.
انكشفت السماء قليلاً، مياه عاصفة الليل ما تزال تسيل على الأدراج، تجرف نفايات الحيّ العالي، تبعثرها في حيّ الاميركان بالتساوي. شرذمة تلامذة في الصفوف الأولى يصعدون عكس الماء، يخبطون أرجلهم فرحين ليصيبهم الرذاذ ويصيب رفاقهم. أزيز منشرة الخشب الطويل يخترقها ودعساتها تضرب في رأسها عندما تلقي بثقل جسمها فتتمهل الى جانب كومة العظام يطنّ حولها الذباب عند باب الجزّار وتنزل درجات الحارة الواسعة ببطء وجسمها مائل كأنها تحمل حجراً كبيراً على قلبها.
تهبط في الطريق المستقيم المحاذي للنهر، جسمها ما زال يعاندها فتمشي يميناً باتجاه سوق الخضار، تناديها الكثرة الصباحية، هنا إذا غابت عن الوعي كما تخشى أحياناً سيسارع المارة وأصحاب البسطات الى حملها ورشّ الماء على وجهها لايقاظها. أناس على الخيرة ينزلون من القرى، مسيحيات مصممات سافرات من أخوات الرجال يكاسرن في كل شيء، مزارعون تفوح منهم روائح الأرض الرطبة في موسم الشتاء يلحقون السوق باكراً في المدينة. رجال، اساتذة مدارس، موظفون، يأتون فرادى من الأحياء الجديدة الغنيّة المتوسّعة عدواً نحو البحر وهم أكثر أناقة، يعودون الى هنا بحجة التبضّع، لكنهم يدورون لمجرّد التنزّه في تلك الأحياء الضيّقة التي ولدوا فيها، يعرّجون على العطّار وإذا صادف وجودهم صلاة الظهر يدخلون أحد الجوامع المملوكية الصغيرة. يختلطون بأناس يقولون أنهم في غالبيتهم الساحقة وافدون جدد، ما عادوا يعرفون منهم أحداً. تتغلغل بينهم، يدفعونها دفعاً في الممر الضيّق المتبقّي خلف البسطات الخشبية وعربات اليد التي يدفعها غرباء فقراء يدللون على الخضار الشتوية ويفرشون الأرصفة بغابة من الأحذية المستعملة. هؤلاء قادمون من بعيد، كأنهم مشوا من بلاد ضاقت بهم هم أيضاً لأيام طوال وسط غبار دروب لا أشجار فيها، حاسري الرؤوس تحت شمس حارقة. يقفون هنا، يبيعون كل ما يباع. لا يحبونهم، يقولون عنهم أنهم يأكلون رزق غيرهم، لا ينفقون شيئاً، يتكدسون في غرف صغيرة، ينهضون مع صلاة الفجر، يتجمهرون عند المفارق، يطاردون السيارات، ينادون المارة، يتضاربون بقسوة ويقطرون الأحمال كالدواب.
تفلت من زحمتهم وقد سهت عن وهنها، تقف لحظة الى جانب شجرة غريبة الأزهار وحيدة تقاوم الباطون، تهز رأسها كالعصفور الذي ينفض ريشه إذا خرج من الماء ثم تكمل صوب سوق القمح، يصفعها الهواء البارد وهي منتشية تفكّر بموكبها الصغير الذي يكون قد تفرّق الآن. سهى الى المدرسة، الكبير الى كاراج تصليح السيارات، يأكله الشحم والزيت ويخشن مع رفاق السوء، والثالث الى الجمعية، أخبرتها المسؤولة هناك أنه يتحسّن كثيراً في القراءة والحساب. تنطلق، تعبر النهر عند جسر الحديد، تسمع صوت حذائها، تسلك الرصيف البعيد، تتحاشى معمل الصابون المفتوحة أبوابه باكراً كي لا يسألها العجوز عن ابنها مرة جديدة.
يتكاثر العابرون على الأرصفة الضيّقة، أبواب الحديد تفتح عالياً فيما دخان السيارات العتيقة يملأ الجوّ وراكبو الدراجات النارية الصغيرة يعبرون في جميع الاتجاهات. تبتعد من طريق الرجل الذي تلتقيه كل يوم في مثل هذه الساعة، تضحك منه في سرّها، يحمل كيساً ويضع أنفاً أخضر فاقعاً ونظارات خضراء بلاستيكية ويُصدر من يديه زقزقات عصافير متواصلة. يبيع الأنوف والنظّارات والسكسيكات الحديدية، تلتفت لتتابعه، يتغامز عليه هؤلاء الذين بدأوا يفتحون أبواب متاجرهم وهو يبدو حزيناً في قناعه المضحك، مسرعاً مستقيماً يفعل ذلك بناء على تعليمات من زوّده بهذه العدّة، يجري كأن أحداً يطارده، هو يزقزق والباقي سيحدث تلقائياً، سيبكي الصغير على أمه كي تشتري منه، كي يقلّده، لكنه يجري، يبتعد ولا أطفال في الشوارع. سيارة مسرعة تطرش المارة بمياه المطر المتجمعة في حفرة وسط الطريق العام، هناك دائماً من يشتم سائقها، فكّرت في الصعود الى إحدى سيارات الأجرة لكنها لا تريد أن تنحشر مع ركّاب آخرين، أن تلتصق برجال يرخون أجسامهم عليها، تفضّل السير وحدها غير مقيَّدة بأحد، رجلاها تستجيبان، تنتقل من رصيف الى بركة ماء، من رائحة الى رائحة.
(…)
تستأنف رحلتها وكما في يوم السبت الماطر هذا، تجرّ جسمها على طريق أمّها، تختصر المسافات، تمرّ كما كانتا تفعلان من زقاق صغير خلف مبنى الإطفائية حيث كانت تتوقف وأمها تحثّها على المسير، ترمق من خلال قضبان السياج الحديد الرجال ببزاتهم وطاساتهم اللماعة يلعبون الورق فوق صندوق خشبي وهم ينتظرون الاستغاثات. تعبر بين السيارات المركونة على الأرصفة، بائعو الأشرطة يرفعون أصوات الأغاني الشائعة الى السماء، ماسحو الأحذية ينظرون الى أحذية المارة، تهرب من أمام مقاهي الرجال، تجد باب الجبّانة مفتوحاً فتدخل، تلتجئ الى المقبرة القديمة، طريق أمها أيضاً. باب الحديد الصدئ كان يبقى مشرّعاً ليل نهار ثم صار ينام بعضهم هنا، يستوطنون، ربما هؤلاء الذين كانت تراهم عند مرورها مع أمها جالسين في الصباح يتبادلون أطراف الحديث. تذكر باعة يمرّون في المقبرة، بائع السبحات الملوّنة أو بائع اليانصيب. طردهم حرّاس البلدية والناطور العجوز صار يقفل الباب أحياناً. كانت فاطمة تخاف قليلاً ولا تحكي، تخشى الأحلام ليلاً، شدّت على يد أمها عندما رأت يوماً عدداً من المشايخ يتعاونون في جمع قطع الرخام المبعثرة في الممرات بعد أن دخل شبّان ملتحون ليلاً، قفزوا من فوق السور، كسّروا بالمطارق شواهد القبور وساووها بالأرض.
لما بدأت تجتاز المدينة وحدها، تفادت المقبرة في رحلاتها الأولى ثم صارت كلما لمحت الباب مفتوحاً تلج فيه، تخرج من حياتها، تتمنى لو تجلس هنا طويلاً، وحدها، فوق مصطبة الحجر في ظل أشجار الكينا العالية. يمرّ بها شاب وفتاة يداً بيد، مشغوفَيْن، يغيبان في ممر ويعودان أدراجهما من طريق آخر، عالقَين في متاهة او ربما يطيلان فرصة تلامسهما باليد، يعرفان أن خروجهما من المقبرة الى الشارع العام يعني اضطرارهما لفكّ يديهما أمام أعين المارة. آه لو تبقى هنا فارغة الرأس حتى هبوط الليل، لا تخشى أن يقفل عليها الباب. أمها وأبوها ليسا هنا، بل في الجانب الآخر، شمال المدينة، في مقبرة الغرباء، تناقشوا أمامها في مكان دفن والدها إذ لا مقبرة لهم في المدينة، والقرية التي أتوا منها نسيَتْهم ونسوها، فلا يبقى إلاّ مقبرة الغرباء حيث لحقت به أمها فيما بعد.
قلّة ما زالوا يعبرون. شاب يأتي في الاتجاه المعاكس، عيناه في هاتفه المحمول، يلعب أو يكتب رسالة وهو يمشي لا يلتفت. يتساقط المطر من جديد خفيفاً منعشاً، تسرّع الخطى نحو باب المقبرة المؤدي الى شارع المصارف حيث يتجمع حشد صغير أمام ماكينات سحب المال، موظّفون يقبضون معاشاتهم. تمشي فتتوسع الأرصفة، تتضاءل أعداد المارة وتتكاثر النساء السافرات، يقدن سيارات الدفع الرباعي، يلبسن السراويل الضيقة والجزمات العالية. سيارة شرطة تطلق صفارة الإنذار فاتحة الطريق أمام قافلة عسكرية موحلة تضيء مصابيح سياراتها في وضح النهار. الجندي الجالس الى جانب سائق الشاحنة الأولى ينام سانداً رأسه على يده…

* روائي من لبنان

( السفير )

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *