حينما رأى بيركهارت الخزنة قبل 200 سنة …!

حينما رأى بيركهارت الخزنة قبل 200 سنة …!

أمجد ناصر *

 

في الثالث والعشرين من آب 1812، وصل المستعرب السويسري جون لويس بيركهارت إلى جنوب الأردن في طريقه إلى مصر.
كان قد أمضى، حتى ذلك الوقت، عامين ونصف العام في سورية التي جاء إليها لتعلم العربية من أهلها، والتدرّب على العيش بين «السكان الأصليين» من أجل غرض آخر بعيد كل البعد عن الربوع السورية: الوصول إلى «تبمكتو» عن طريق واحة فزَّان الليبية!
حتى تلك اللحظة لم تكن لبيركهات حكاية تُروى ولا حقّق في مدونة «الاكتشافات» الاستشراقية شيئاً يُذكر سوى ما أبداه من عزم لا يلين على الوصول إلى الهدف الذي أرسلته من أجله «الجمعية الإفريقية» في لندن، التي كانت تعاني إحباطاً من فشل «مستكشفيها» وعدم تمكّنهم من «التوغل» داخل القارة الإفريقية.
لكن بيركهارت الذي عمل على مراوغة رجال محمد علي في العقبة وقرَّر الذهاب إلى القاهرة، في خط مستقيم، عَبْر صحراء سيناء، سيكون أمام أهم أحداث حياته: رؤية البترا، المدينة الوردية التي لم يصلها قبله أوروبي معاصر، وإذاعة خبرها على «العالم».
سيكون على بيركهارت (1784-1817) أن يُمضي ما تبقى من حياته القصيرة بين العرب ولن يصل إلى «تبمكتو» (هدف رحلته الشرقية أصلاً) قط، لكنَّ اسمه سيظل مقترناً بالبترا عاصة الأنباط المتوارية، بإعجازها المعماريِّ، وراء جبال جرداء جهمة.
ورغم أن الهدف الذي كان يسعى إليه بيركهات، ويجهز نفسه من أجله، يبعد آلاف الأميال عن سورية وأعمالها، إلا أنه التزم، بما يشبه التفاني، بالتقاليد التي كانت سارية بين «الرحالة» و»المستكشفين» الأوروبيين في معاينة المظاهر الطبيعية للبلدان التي يمرون بها ووصف «طباع» سكانها والإصغاء إلى ما يروج بينهم من أخبار وحكايات.
ومن بين تلك «الأخبار» و»الحكايات» التي كانت رائجة بين بدو جنوب الأردن، خبر «تلك الآثار التي يتحدث عنها الأهالي بإعجاب شديد». لم يعرف بيركهات، حتى تلك اللحظة، عن أي آثار يتحدث مضيفوه، وحسناً فعل أنه صدَّقهم، فهو يقول في يومياته في هذا الصدد: «وقد تعلمت أن على الرحالة أن يرى كلّ شيء بعينيه، أما أقوال البدو فلا يعتدُّ بها، فهم يبالغون في وصف الأشياء التافهة ولا يأبهون بالأشياء الجديرة بالدراسة والاهتمام»!
لم تكن فقط الحكايات التي سمعها من بدو جنوب الأردن عن «تلك الآثار» هي التي حفزَّته للذهاب إلى وادي موسى، بل أيضاً ما رآه بالقرب من موقع البترا (التي لم يكن يعرف عنها شيئاً حتى تلك اللحظة) من كتل من المرمر الذي تكتَّم الأهالي على إخباره، على ما يبدو، عن مصدرها.
لا تفصح اليوميات التي يؤرخ بها رحلته إلى جنوب الأردن عن معرفة بما يتضمنه هذا الصوب من «آثار»، على عكس ما أبدته تلك اليوميات من معرفة بما تتوافر عليه مناطق أخرى سبق أن مرَّ بها.
فقد كان يعرف مسبقاً بعض المعلومات عن آثار بعلبك أو تدمر أو بصرى (الشام)، كما أنه يربط هذه المدائن بأزمنتها التاريخية والحضارات التي تنتمي اليها، بل يبدي بيركهارت معرفة تكاد تكون تفصيلية في خصوص بعض المناطق، فهو، مثلاً، يعيد منطقة «إربد» إلى زمنها اليوناني ويقول إنها كانت تسمى «بتنايا»، ويلاحظ، كذلك، وجود وجه شبه بين اسم المنطقة اليوناني واسم واحدة من أهم عائلاتها ألا وهي: البطاينة.
لكنَّ هذه المعرفة المسبقة بما كانت عليه المنطقة من أحوال حضارية سابقة تصل إلى حد الصمت التام عندما يقبل على «وادي موسى» ولا يكون بينه وبين «البترا» سوى بضع مئات من الأمتار!
من الإنصاف القول إن يوميات بيركهارت لا تزعم معرفة مسبقة بعاصمة الأنباط، ولا تدعي علماً بمكان وجودها، لذلك تقع عليه رؤية «البترا»، وجهاً لوجه، وقع الصاعقة.
كانت «البترا»، عاصمة المملكة النبطية التي امتدت من دمشق شمالاً إلى عسقلان جنوباً، قد انقطع خبرها عن العالم الخارجي تماماً بسبب تراجع دورها التجاري والثقافي من بعد ازدهار استمر بين عامي 400 قبل الميلاد و106 ميلادي، ولم يعرف الغرب عنها الكثير رغم أن الصليبيين قد اتخذوا من آثارها وموقعها الحصين، قلعة لهم لبعض الوقت، وفي تلك الفترة، بالذات، حظيت بزيارة السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، وسجّل وقائعَ هذه الرحلة المؤرخ النويري.
هكذا، كان بيركهارت خالي البال تماماً من أيِّ فكرة مسبقة عن عاصمة والأنباط وهو يخطط للوصول إلى القاهرة، في خطٍّ مستقيم، مخترقاً صحراء «التيه» (سيناء) كما يقول، منتحلاً اسماً عربياً سيرافقه حتى نهاية حياته القصيرة وسيُكتب على شاهدة قبره في القاهرة: إبراهيم بن عبدالله!
وبما أنه قدَّم نفسه، لكلِّ من قابله في النصف الثاني من رحلته السورية، بوصفه تاجراً من لبنان، لم يكن بيركهارت يستطيع أن يتصرَّف تصرَّف السائح الأجنبي أو «المستكشف» فيقوم بتسجيل ملاحظاته عن المناطق التي يعبرها علناً أمام مضيفيه أو رفقاء رحلته، فها هو يصف لنا مأزقه كشخص متنكّر في زيٍّ ليس زيَّه وباسمٍ ليس اسمه: «للأسف لا أستطيع وصف الآثار التي أمرُّ بها، ولكن سأصف لكم حالي في هذا المكان (جنوب الأردن) وحيداً بلا حماية في مكان لم يدخله أجنبي أو سائح من قبل، فإذا قمت بفحص هذه الآثار أو رسمها أو كتابة أي شيء عنها أمام هؤلاء الأعراب الذين يحفّون بي فإن فهمهم الوحيد لتصرفي هذا هو أني ساحر أقرأ الطلاسم وأدمدم لإخراج الكنوز الدفينة في المكان، وفي هذه الحال سيقومون بضربي وتعذيبي لأقاسمهم الكنوز أو أدلّهم على أمكنتها، أما إذا أبيتُ وأنكرتُ معرفتي بذلك أو حاولت شرح مهمتي لهؤلاء السذج فإنهم سيسلبونني متاعي ويمزقون أوراقي التي هي أهم من حياتي (…) لذلك أترك هذه الآثار التي لم تقع عين إنسان على أجمل منها للمكتشفين الذين سيأتون في المستقبل تحت حماية مسلحة من الدولة حيث يدرسون المكان وينشرون عجائبه على العالم، وسيرى العالم أيّ فن وعبقرية يتمتع بهما أولئك الأنباط الذين صنعوا من الصخر آيات من الفن»!
هذه الملاحظات التي يسجلها بيركهارت في غفلة عن أعين مضيفيه الذين يستخدم حيالهم كلَّ مفردات المعجم الاستشراقي الجاهزة، لم تحل دون قيام ذاكرته المدرَّبة، لمواجهة أحوال كهذه، على تخزين معلومات شديدة الدقة والتوافر على مشاهد تكاد تكون فوتوغرافية.
دعونا نقف على الصدمة التي أصيب بها وهو يرى أول ملامح البترا، بعد عبور «السيق» (الشق الصخري العظيم المؤدي إلى المدينة المحجوبة)، حيث يلعب الضوء والظل لعبة تبدو لا نهاية لها:
«بعد سيرنا لمسافة خمس وعشرين دقيقة في السيق الذي زاد اتساعه في هذه النقطة (….) فجأة يبرز أمامنا معبد يخلب الألباب بجماله وضخامته ونحته الذي لا مثيل له، وقد صُمّم ليكون في هذا الموضع بحيث يفاجئ القادم عبر هذه الطريق المعتمة داخل السيق».. وقد ملّت عيناه رؤية الجدران الصخرية الشامخة عن يمينه وعن يساره وكادت أنفاسه تتقطع لضيق الطريق المليئة بالهواء الفاسد، فيفاجأ بهذا المنظر الذي يخلب اللب بجمال نحته وحسن منظره والذي لا مثيل له في جميع الآثار التي شاهدتها في سورية، ولم تؤثر فيه حوادث الزمن، كأن النحاتين قد تركوه لتناول طعام الغداء، أما أنا فأستطيع أن أؤكد أن أيَّ فنان مهما علت مكانته في العصر الحديث أو القديم لا يستطيع أن يدعي أن بإمكانه الزيادة أو التعديل على هذا الأثر الجميل شيئاً لأنه كامل»!
لا مبالغة، بالطبع، في كلمات بيركهارت، فمن يعرف «الخزنة» التي هي أول ما يراه الخارج من «السيق» بعد لأيٍّ، يعلم أن المستعرب السويسري أُخذ بما يؤخذ به كلُّ من يرى «الخزنة» الآن (رغم الذيوع المفرط لصورتها على مستوى العالم)، فما بالكم بمن لم يرها من قبل ومن لم يوطد النفس على تلقي صدمة جمالية كهذه.. دفعة واحدة؟
مات بيركهارت في القاهرة بتسمم غذائي بعدما سجل باسمه «كشفاً» آخر هو معابد أبو سنبل في جنوب مصر.. بالصدفة أيضاً.. بيد أنه لم يعد إلى سورية مرة ثانية ولم يصل، بالطبع، إلى «تبمكتو»، لكنَّ ما كتبه عن البترا ونشر في كتاب له صدر بعد عشر سنين على وفاته بعنوان «رحلات في سورية والديار المقدسة»، هو الذي أثار خيال «رحالة» ورسامين استشراقيين آخرين لرؤية الأعجوبة التي تحدث عنها. وتُعد رسومات الرسام الأسكتلندي ديفيد روبرتس، الذي زار البترا في العام 1839 ووضع عشرين لوحة ليثوغراف، أول لوحات غربية للمدينة الوردية والأشهر عالمياً.

 تم نشر المقال في ( الرأي الثقافي) وثقافات عام 2012 ونعيد نشره هنا تعميما للفائدة 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *