أنا الأردني الفلسطيني … سليل تلك الأمكنة ..!

أنا الأردني الفلسطيني … سليل تلك الأمكنة ..!

نائل بلعاوي

احياناً، وهي كثيرة: لا استطيع، مهما اجتهدت او حاولت، تفسير المشهد الاردني أو فك الغازه الحاضرة. لا يعني هذا بكل الاحوال، أن الغاز الاماكن الاخرى اقل تعقيدا واكثر ليونة من مثيلاتها الاردنية… لا قاطعة، فما يجري في دول الجوار، والمنطقة عموما، يأخذك، هو الاخر، الى سديم المعنى وتيه الحال. ولكن الاردن، على الرغم من عنف الحقيقة هذه : يبقى مميزأ بألغازه وغموض احواله. وكأن متاهة البحث عن حلول حداثية للهموم والمتاعب، قد تحولت، هي ذاتها، الى مصدر لئيم لتلك الهموم وانواع المتاعب… وقد تكون الان: من اعلى مصادرها واكثرها حضورا.؟
لهذا: يصعب على المتلقي البعيد مثلي ان يفسر او يترجم ما يبوح به المشهد الاردني عن نفسه وفوضاه؟ وربما، يلعب الشعور الذاتي دورا حاسما في مهمة التلقي تلك ويزيدها تعقيدا. فالمكان الذي اسعى وارغب بتفكيك طلاسمه، هو مكاني الشخصي ايضا، هو الحجر الاساس في بنية النفس والذاكرة… هو الذي حملت جواز سفره وجلت به وجال بي في مدن العالم، وهو الذي وضعت دوائر الهجرة الاوروبية اسمه في خانة / البلد الاصلي / على اوراق اقامتي الاولى، فقد كنت، على امتداد عقد كامل: اردني الهوية وبقيت، الى لحظة حصولي على جنسيتي الجديدة قبل عقد ونصف من الان، حاملا لتلك الصفة الرسمية التي لن يتم استبدالها بصفة رسمية اخرى، فحسب، بل سيضاف اليها، كما هو الحال في جواز سفري الان: اسم مكان الولادة فقط وليس اسم البلد الاصلي. ومكان الولادة هذا هو : قرية صغيرة على الضفة الغربية لنهر الاردن، لا اعرف عنها اكثر مما يعرف المرء، من بعيد، عن مكان ما في جغرافيا بعينها، ولا احمل منها اكثر مما يمكن للرضيع ان يحمله…. وماذا يمكن للرضيع الذي سيرغم اهله في العام 67 على ترك المكان، الى الابد، ان يحمل من هناك ؟ وكيف لا تصير العلاقة الشخصية بمسقط الرأس، والحال هذه، هي الناتج العاطفي، ليس اكثر، لما لا يعد او يحصى من ذكريات الاهل وحكاياتهم عن مسقط الرأس، تلك التي ستلقى على مسامع الولد، لاحقا، وتساهم مباشرة، بتكوين هويته الفلسطينية… هويته العاطفية ان جاز التعبير، خلاصة ما يقصه الاهل من حكايا وذكريات… جميلة هي بقدر ما هي مؤثرة ولكنها لا تطال ابدا مستويات التلقي المباشر للأمكنة وعديد اقتراحاتها، ولن تكون بمثل طاقتها.
حل جواز سفري الحالي، استطرادا، محل الاردني …لم يعد لديً، عمليا، ما يدل رسميا، على جنسيتي الاردنية السابقة، فقد خرج البلد الاصلي من الاوراق … من الاوراق وحدها. ولكنه لم يخرج، ابدا، من خبايا النفس ومكونات الذاكرة ، ولم يكف يوماً، عن كونه الحجر الاساس في معمار الذات… المكان الاول، كما اعتدنا على ترتيب الاماكن في الادب وعلوم النفس، ذاك المحفور، بمهابة وشم بدوي، في منطقة ما من الروح، والثابت، مثل الوشم، الى اخر العمر هناك، أذ يستحيل على الادمي، مهما حاول ومهما تنوعت مصادر ثقافته ومنابعه المعرفية، يستحيل عليه الافلات من مؤثرات العلاقة الخاصة تلك، او تخفيف سطوتها، كما يستحيل عليً، الان والامس، ابعاد ذلك الرابط الشفيف / العميق بالمكان المركزي.. واستحضار حيادية اشتهيها، تجاه اخباره او عند الكتابة عنه، ولا ارغب بأداة سواها.. وافشل، دائما افشل.
في المكان الاول ذاك، وفي مدينته العجيبة، الزرقاء : صرت اردنيا. وصرت، في الوقت عينه، فلسطينياً، كذلك. هكذا، بضربة واحدة لجغرافيا المنطقة وشجونها، يصبح المرء حاملا لهويتين. واحدة تقترحها التراجيديا العظيمة لحيوات الاهل، والاخرى يقترحها المكان… محيطه الثقافي والسياسي والاقتصادي، وما يصعب حصره من هموم ومشاغل اهله، تلك التي صارت هموما ومشاغل لي ولابناء جيلي الذين عاشوا في احشاء الزرقاء سنوات السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم.
كانت الزرقاء، الخارجة للتو من رحم السقطة الكارثية في ايلول 70، مدينتي… مدينتنا، فيها تعلمنا القراءة والكتابة. فيها طاردنا غوايات الشعر وطاردتنا. وفيها عرفنا ان البلاد تعج بالاحزاب والتنظيمات اليسارية المختلفة، اليسارية تحديدا، فذهبنا، بروح المغامرات الاولى واحلام طرد الفقر وانواع القهر، خلفها، صار منا الشيوعي الاردني، والشيوعي الفلسطيني. ثم الكادر اللينيني، والجبهاوي، نسبة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، او الجبهة الديموقراطية .. لتحريرها ايضا.. الى اخر الوان الطيف السياسي الذي تحولت معه الزرقاء الى حاضنة مصغرة لعالم شاسع وبعيد. واختلفنا، نحن الرفاق انذاك، مرات، فيما بيننا، واتفقنا مرات اخرى. وناضلنا ، بالقليل الذي تسمح به الاحوال وخطوط الامن الحمراء، فعيون واذان المخابرات، كانت دائما هناك، تترصد اولئك الفتية الذين عقدوا العزم على(تغيير العالم) عبر خلايا الاحزاب السرية والقصائد والحوارات الجريئة في قاعة نادي اسرة القلم الزرقاوي الشهير..
كانت الزرقاء مدينتي.. مدينتنا، نحن ابناء تلك الجغرافيا الصارمة والحزينة.. نحن : ابناء الضفة الغربية للنهر الذين قذفت بنا الهزائم العربية الرنانة الى حضنها، ونحن : ابناء الضفة الشرقية، الذين وجدنا انفسنا، بحكم الولادة ودوافع البقاء العديدة، فيها. وصرنا، معا، ابناء المكان وناتجه الجمعي، اذ لا فرق يذكر بين همومنا ومشاغلنا الحياتية. لا فرق الا بصعود اوهبوط وتيرة القصص التي تلقى على مسامعنا في بيوت الاهل، ولا تشكل بطبيعتها او ما تود الاشارة اليه محاولة، معلنة او خفية، للقطع مع المكان او التنصل من حتمية الانتماء اليه، بل، وعلى العكس من ذلك تماما، فقد سارت المؤثرات الروحية تلك، جنبا الى جنب، مع اولويات الولوج في نسق المكان واحترام خصائصه الطبيعية، غير البعيدة ابدا واصلا، عن الخصائص والصفات والعادات التي جاء بها الناس الى الضفة الشرقية للنهر.
لا فرق، على مستويات التعاطي مع المكان وتجلياته.. ولا على صعيد عوامل التأثر والتأثير بالمحيط العام. لا فرق، هنا او هناك، بين الاردني والفلسطيني الاردني في الزرقاء التي عرفت. كما لا فرق، يمكن استحضاره الان، بين هذا الصديق الشرق اردني، وذاك الفلسطيني الاصل، كنا، جميعنا، نتاج الحالة السائدة انذاك … ضحايا غياب الدولة الديموقراطية ومصادرة الحريات العامة. نتلقى معا ما تفرضه الدولة من سياسات، غير. محببة، علينا. ندين، معاً، تسلط اجهزة الامن ولا حدود حضورها في حيواتنا. ونمدح، معاً، مظاهر حرياتنا المشتهاة. وكنا، ها انذا اعود مجددا لصيغة الجمع المحببة هذه، كنا على اتفاق، لا أذكر عكسه الان، حول اعتبار الايام السوداء التي مرت بها البلاد في العام 70، كارثة اخلاقية لا بد من منع الرجوع الى حضيضها مرة اخرى. لا بد من تجاوز تبعاتها واخماد رمادها الى الابد.
كانت الزرقاء مدينتي.. مدينتنا، وما جواز سفري الاردني السابق سوى ثمرة لحياة طويلة وتأسيسية فيها، ولم يكن مجرد وثيقة مؤقتة للسفر. لم يكن هدية لضيف عابر، قد يرحل اليوم او يرحل غدا ولا يعود. لا قاطعة واكيدة، فحين اعود اليوم، كما فعلت مرات عديدة سابقة، لا اعود الا لزيارة الزرقاء.. للبحث عني وعنهم هناك. عن ذاكرة لا تحتاج، بكل الاحوال، لحزمة الاوراق الرسمية والاختام ودساتير الدول. ولا تحتاج اذناً من احد لتأكيد حضورها وكثافة ما تدل عليه.
اليوم، حين اطل من هذا المكان البعيد على الزرقاء، على عمان، على شمال البلاد وجنوبها. ولا اعرف بأي الية يمكن لي ان اقرأ او افسر ما يجري هناك، اصاب اليوم، بحمى التيه وفقدان البوصلة. بحزن، لا طاقة لي على اجتناب اعراضه .. كيف لي ولابناء جيلي الذين اخذتهم جهات الارض الى غيها، او اولئك الذين لم تأخذهم ولا يزالون حتى اللحظة هناك. كيف لي ولهم: ابعاد اشباح الحزن واعراضه عن ارواحنا ؟ كيف، والبلاد، تعبر الان حقل الغامها الاشرس… تدخل، بلا رحمة، دروب المتاهة وتسلم حالها لثلة من حراس الوهم… رعاة فكرة بلا قوام او امل، فكرة لا يمكن وصفها الا بالكثير من النعوت القبيحة التي يصعب ذكرها الان. كيف يمكن للمرء وصف دعوة الداعين هناك الى حجب الثقة، بمعناها الانساني والثقافي والسياسي والاقتصادي والوجودي، عن نصف سكان البلاد، او اكثر …. اولئك الشركاء في المكان والهموم والذاكرة؟ وبأي المفردات يمكن الحديث عن ثلة تطالب بسحب الجنسيات من الجيران والاصدقاء والزملاء والرفاق واخوة الهم والغم الذين (اتضحت، فجأة، حقيقة انهم يحملون على اكتافهم اعباء قضية اخرى. ويحلمون احلاما اخرى، وربما: تنتابهم حمى الذكريات والمواجع المتوارثة فيدخلون مدارها، جذورها، على الضفة الاخرى)؟ اليست هذه، هي التهم التي تكيلها الثلة الرعناء للشركاء في البلاد والمصير؟ مع عدم اغفال التهمة الغريبة الاخرى التي تقول بأن(الاردني الفلسطيني يتذمر، بصوت مرتفع احيانا، من اعراض التمييز التي تطاله في بلاده). هي تهمة غريبة فعلا، لا لانها غير صحيحة او مجحفة، بل، لانها تتناقض وببساطة مع حق الاردني على اختلاف اصوله، شركسية كانت او شيشانية و فلسطينية و حجازية او عشائرية، بالتذمر، حين يعثر على دافع ما للتذمر؟ والدوافع كثيرة كما نعرف هناك، ولا تخص الاردني الفلسطيني وحده، بل تشمل جميع الفئات المذكورة كذلك. وما تسليط الضوء على فرقة واحدة من المجتمع دون غيرها ، ومنعها من ممارسة حقها الطبيعي بالاحتجاج والمطالبة بالتغيير، ما هو الا محاولة خبيثة بقدر ما هي ساذجة، لمنع التغيير ذاته، وحرمان المد الشعبي الذي يسعى اليه، من طاقة هائلة ولا بد منها على تحقيقه؟ اتكمن الحقيقة هناك فعلا… هل تحملت الثلة تلك انواع الصفات، الصحيحة، التي توصف بها الان: عنصرية. اقليمية.. الخ. مقابل تحقيق الهدف الاعلى المتمثل بابعاد نصف المجتمع عن المشاركة بمشروع التغيير؟ ممكن.. والا، فكيف نفسر ارتفاع ذلك الصوت العنصري الى هذه المستويات الفضائحية في وقت، متزامن تماما، مع عبور رياح التغيير مجالها الاردني. في وقت يموت الناس فيه، على مرمى حجر في الجوار السوري، بحثا عن حرياتهم المصادرة، وعن حقهم ببناء دولتهم المدنية الموعودة؟
في هذا الوقت العربي العاصف تماما، الجديد بأرهاصاته ومآلاته: صعد الصوت النشاز الى سقفه في الاردن. وصار على الاردني الانشغال بقضايا ما هي بقضايا اصلا. والاجابة عن اسئلة بلا جدوى، ولا توجد دوافع ما، ثقافية اقتصادية او هوياتية، لطرحها. فبعيدا عن الدوافع الكامنة عند تلك الثلة الرافلة بجهلها وتخلف ادواتها، لا يمكن العثور في صلب المجتمع الاردني على اسباب ما لهذا القبح. اّذ أن السؤال الاجتماعي الاردني الان، كما الامس والغد، هو عين السؤال العربي الهادر من المحيط الى الخليج. هو سؤال الدولة المدنية الديموقراطية التي تحترم، فعلا لا قولا، حريات اهلها، على اختلاف مشاربهم، وتصون كرامتهم. وما عدا ذلك، هو الضياع، هو التيه، هذا القائمة اعمدته الان هناك.
لا اود حقيقة، ولا اسباب لديً تدفعني لدخول النقاش مع ثلة الفصل العنصري تلك. ولا يهمني، في الوقت عينه، ما قد تجود به قرائح علماء الاجتماع او علماء النفس ولا خبراء الاقتصاد ولا السياسة. لا يهمني ما قد يصلون، معا، اليه عند تحليل المشهد الاردني وتفكيك خيوط متاهته. ولا اريد للالغاز التي افتتحت بها هذا النص ان تفسر. فكل ما يهمني الان، وفي كل وقت، هو الضجيج الداخلي الشخصي تماما عندي. هو سؤال العلاقة البكر مع الامكنة الاولى والوجوه الاولى ولا حدود الاحلام الاولى. ما يهمني هو المكان الذي احببت وحملت دوما معي، ولا استطيع، ولا اريد، الكف عن اعتباره الحجر الاساس… هو الحجر الاساس، وما هذه الذات: ذاتي الاردنية الفلسطينية والنمساوية ايضا، سوى صنيعته هو. نتاج طقوسه ومتاعبه وانشغالاته التي تحملني الان على القول، وبلا تردد : أنا الاردني الفلسطيني.. سليل تلك الجغرافيا واقتراحاتها، ولست مجرد ضيف عابر، قد يعود او لا يعود. انا ابن تلك الامكنة، والزرقاء الحزينة مدينتي.. مدينتنا التي لا ارجع، حين ارجع، الا اليها. الى شوارعها وازقتها ووجوه اهلها الذين لا يحلمون بغير عيش افضل وحريات غائبة، ولا يتساقطون، بين هذا وذاك، في مستنقع البحث البدائي عن الانساب والاصول، ولا يغرقون في تيه الهويات… هذا التيه المقترح، والحاضر الان للاسف، مثل غيوم سوداء، مظلمة وظالمة، فوق مدينتهم.. مدينتي.. مدينتنا، وفوق سائر المطارح في البلاد

 

( القدس العربي )

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *