رجال وقبائل


لينا هويان الحسن *

( ثقافات )



غريب ، رغم أني التقيتك في مناسبات عدة ، لكن لم أجرؤ وأنثر فضولي المعتاد بسيل من الأسئلة التي اعتدت التفوه بها بمناسبة وغير مناسبة على كل الذين حولي . . ربما السبب وقتها أني كنت طفلة توزع اهتمامتها يميناً وشمالاً . . لكن صورتك تقترن بذهني بسياراتك الكثيرة . اعتدت أن أربط الرجال بسياراتهم . صورة عمي والذي كان صديقك اقترنت بذهني بسيارة الشفروليه الحمراء . لكن أنت بالذات اعتدت تبديل السيارات، مرسيدس. . دودج. . فورد. . وكنتَ مغرماً بالسيارات الفاخرة المكشوفة تحب التجول بسيارة لاسقف لها . .حالما تظهر سيارتك عن بعد يحزر الجميع الضيف القادم. . و أسمع الجميع حولي يتراكضون ويتهامسون : إنه فيصل . . وكأن لا “فيصل” غيرك في الشمبل .. كأن ما من أحد غيرك يحمل هذا الاسم . .وفور وصولك سينحر خروف وتُعد وليمة. وسأسترق السمع إلى النسوة وهن يقمن بإعداد الطعام وقد أخذتهن شهوة الثرثرة وانغمسن بسرد زيجات فيصل النواف المتكررة ، فقد تزوج أجمل جميلات العرب في ذلك الوقت وكانت حياته الشخصية مثيرة بقدر ما كانت حياته العامة . .
أكثر ما أتذكره عنك مشيتك الأنيقة المتأنية وعينيك الخضراوين وسيماءك التي تميل إلى الشقرة . . وهذا الطراز من الصفات العرقية تميز به غالب بدو قبائل الشمبل –ربما – بسبب قِدَم وجودهم النسبي في المنطقة مقارنة بقبائل أخرى وفدت على المنطقة بعيد الفتح الإسلامي بقليل . .

غريب أيضاً. . لم أعثر على الكثير عنك فقط بضع سطور في أحد كتب التي توثق لأعلام البدو:
( ولد في عام “1915 ” ورث المشيخة بعد مقتل أبيه نواف الصالح في عام 1949 ونجح بالوصول إلى المجلس النيابي مرتين ، اشتهر بالذكاء والنباهة ، يخلف انطباعاً جميلاً أينما حل ، كان شخصية محبوبة من كل الأطراف.)
لشح المصادر المكتوبة بشأنك ، سأعتمد على قصتين رويت لي شفاهياً من بعض المعمرين في القبيلة، و أبدأ سيرتك ابتداءً من سيرة الصقور . .
أكثر ما اشتهرت فيه غرامك بتلك الكائنات المحلقة . .
بلى اشتهر فيصل النواف بولعه بالصيد والقنص ويعتبر من أهم وأوائل رواد رحلات المقناص الطويلة ولم تزل قبيلة “الإبراهيم” التي ينتمي إليها آل الجرخ أو الكرخ ، شيوخ الحديديين ، تشتهر بصيد الصقور الحرة على أنواعها ، وكانت بداية تحويل هواية الصيد بالصقور الحرة إلى “تجارة” مربحة أحياناً بشكل خيالي ، على يد فيصل النواف.
في إحدى رحلاته تلك قصد بها براري العراق ، وعلى أحد الطرق لدى مروره من مخيم للبدو تعطلت سيارة فيصل النواف ، راح يتمشى حول السيارة خلال انهماك مرافقيه بإصلاح الإطار المعطل ، مرّ فتى من المخيم القريب من الطريق وحاول معرفة رجال السيارة ، ولما كان من المعيب لدى البدو التوجه بالسؤال مباشرة عن اسم بدوي آخر سأل الفتى فيصلا عن المكان الذي قدموا منه ، فقال له فيصل : ” حنّا من ديرةٍ ما حد وطاها “-أي لم يطأها أحد- استغرب الفتى من تلك الإجابة . وعاد أدراجه إلى مضاربه فيما انتهى رجال فيصل من تصليح الاطار وانطلق مجددا في رحلته .
خلال طريق العودة بعد عدة أيام بينما سيارة فيصل تقطع الطريق ذاته الذي ثُقب عليها إطار سيارته لحقت به سيارة من مخيم البدو القريب ، السيارة التي أوقفت سيارة فيصل كانت تقلّ شيخ القبيلة في تلك المنطقة ، ترجل وطلب باحترام بالغ قبول دعوته للغداء في منزله ، فيصل النواف لبى الدعوة ، وبعد انتهاء الغداء سأل المضيف ضيفه مستفهماً منه حول ما قاله للفتى الذي سأله قبل أيام عن ديرتهم وقتها قال له فيصل ” حنّا من ديرة ماحد وطاها ” فقال له الشيخ كلامك عن” ديرةٍ ماحد وطاها ” يعني إنك واحد من اثنين إما: ابن جرخ أو أمير الموالي ؟”
لم يكن صعبا على أي بدوي في البادية الشامية أن يعرف أن ديرة الشمبل هي “ديرةٍ ماحد وطاها” لأنها أرض ذاد عنها الموالي والحديديون بشراسة . أمير الموالي قبل قرون طويلة نصب عمود “الحمى ومنع أي قبيلة أخرى من تجاوزه . وظلت منيعة ولم تفلح أي قبيلة في تثبيت موطئ قدم لها هناك .
وعن الحكاية الثانية كانت عندما حدث ورافق فيصل النواف شيخ السْبَعَة راكان المرشد في رحلة صيد إلى الأردن ، ونزلوا في ضيافة قبيلة “الخريشة ” ، كان فيصل يلف كوفيته حول وجهه بشكل لم تظهر منه إلا عيناه كان المضيفون يعرفون ضيفهم شيخ السبعة راكان المرشد لكن لم يعرفوا فيصلا وليست من عادة البدو سؤال ضيفهم عن هويته إلا إذا أراد الضيف التعريف عن شخصه من تلقاء نفسه .
فيصل كان يجلس إلى جوار راكان فيما ثمة رجل عجوز يحمّص القهوة جالساً وقد مد رجله أمامه ، التي بدت أنها معطوبة منذ زمن طويل ، عينا العجوز لم تفارق وجه فيصل وبعد وقت من تأمله ملياً سأل العجوز راكان المرشد عن جليسه يقصد فيصلا فقال له راكان : ” من ربعنا ” – وهذه إجابة مهذبة تدل على التحفظ في الإجابة – فعاد العجوزللسؤال مرة أخرى وراكان المرشد يجيب بتأفف : ” أعلمتك إنه من ربعنا” لكن العجوز ظل يتململ ووجه السؤال مرفقاً باليمين وسأل مرة أخرى “احلفك اليمين من هو جليسك ” فأجابه راكان بقوله :” فيصل الجرخ ” فصاح العجوز ومدّ رجله المعطوبة :” ويلي هذا صواب جدك . . عرفتك من عينيك ” .
العجوز كان يقصد صالح الجرخ الذي صدّ قبيلة “الخريشة” لدى محاولة جريئة منها لاجتياح حدود الشمبل في نهاية القرن التاسع عشر فكانت حرباً ضروساً وقد روى عنها المعمرون حكايا كثيرة وكيف
أن المعركة احتدت إلى حد انتهت فيه الذخيرة وتحول القتال إلى اشتباك بالأيدي والخناجر على ظهور الخيل وقتها نجح صالح الجرخ شيخ الحديديين برد “الخريشة” على أعقابها . وذلك العجوز ذي الرجل المعطوبة كان واحداً من الذين تواجهوا بشكل مباشر مع شيخ وعقيد حرب الحديديين والذي هو بذاته كان جداً لفيصل النواف الذي نزل ضيفاً عابراً على “الخريشة” بعد نصف قرن من تلك المعركة والعجوز لم ينس نظرة في عيني صالح الجرخ أورثها لحفيده فيصل النواف. .
حتى بريق العينين لا نكتسبه اكتساباً إنما يورث توريثاً . .



* روائية وصحفية من سوريا


نص من كتاب جديد بالعنوان نفسه ” رجال وقبائل ”


شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *