المثقف واليوتوبيا الرُّشدية


خيري منصور *

كان يمكن ان تنسب هذه الفوبيا الى سقراط الذي تجرع السمّ قابلا بحكم اثينا عليه او الى غاليلو وجوكارنو لأن الأول تواطأ لينجو، بينما تحول الثاني الى رماد في محاكم التفتيش، والأرض استمرت بعدهما في الدوران ولم تعتذر عن كونها مستديرة، وفي الذاكرة الثقافية العربية يمكن لهذه الفوبيا او الهلع المستوطن في اللاوعي ان تُنسب الى سلالة لم تنقطع منذ التوحيدي والحلاج والسهروردي وابن المقفع والكواكبي.

لكن اختيار ابن رشد له امتياز يتجاوز النمط الى الأمثولة، لأنه مثل العقلانية التي ترتب على انحسارها الكثير من القضايا المعرفية، فالرجل لم يقتل كابن المقفع ولم يصلب كالحلاج لكن كتبه احرقت، فكان اشبه بما قال عنه هنري ميشو وهو يزهو على اوروبا بالمقصلة الفرنسية لأنها تقطع الرأس كله .. لكن الآخرين يقطعون اللسان فيكون العقاب أنكى، ولهذا السّبب حرص السّجان على امتداد التاريخ على ابقاء السّجين حيا، لأن الموت بالنسبة اليه انعتاق والمشهد الدموي المثير الذي قدّمه ميشيل فوكو في كتابه عن تاريخ التعذيب والذي كان بطله المسيو دميان نموذج لحرص السّجان على حياة السّجين، لأن بقاءه حيا هو الشرط لجدوى تعذيبه، لهذا استمر في سجون العالم كلها تقليد راسخ هو تجريد السجناء من اية ادوات او وسائل تتيح لهم الانتحار. في حالة ابن رشد الذي احرقت مخطوطاته كان الهدف هو عقل الفيلسوف وليس جسده. وكان اول وصف لابن رشد سمعته وانا طالب بالجامعة من استاذي د. محمود قاسم وهو الفيلسوف المفترى عليه، فالمسألة اذن افتراء بكل ما تعج به هذه المفردة من دلالات التقويل المتعسف، والاستعداء والوشاية، والمصائر التي انتهى اليها الحلاج المصلوب والسهروردي المقتول وابن المقفع المشوي في سفود كالخراف كانت تعبيرا عن فك الاشتباك بين القائل والمقول، او بين المؤلف والنّص، فكلاهما يتوجب إعدامه، وقد تكرر ذلك على نحو رمزي اوشك ان يصبح واقعيا في تجارب معاصرين بدءا من طه حسين بعد صدور كتابه في ‘الشعر الجاهلي’ وعلي عبد الرازق بعد صدور كتابه ‘الاسلام واصول الحكم’ وليس انتهاء بصادق العظم بعد صدور كتابه نقد الفكر الديني ونصر ابو زيد وسيد القمني وآخرين ممن حوكموا او عوقبوا او أعدموا مع وقف التنفيذ .

ان تلك المصائر لم تصبح خارج اللاوعي والذاكرة بالنسبة للمثقف العربي، بل شكلت تبعاتها وتكرارها فوبيا مزمنة، تتلخص في الاحتراز من الغلوّ في التأويل بحيث يصبح تقويلا وفي الهلع من نهايات تراجيدية.

ومن افرازات هذه الفوبيا السّامة ان الكاتب العربي أصبح رقيبا على ما يكتب لكنها ليست رقابة الاختيار والترك او ما يسمى التجويد في الكتابة، بل هي رقابة الحذر من الاقتراب من المسكوت عنه والمحظور وأدى ذلك الى تدجين النصوص، فالقلم تتدلى عنه ممحاة سرية، تسارع الى حذف ما يُعتقد بالحدس انه سوف يعرض الكاتب الى مصير لا يحسد عليه، وفقه التقويل الاستعدائي في ثقافتنا مقيم وليس عابرا وقاعدة وليس استثناء، حتى عندما استنطق ابن المقفع الحيوان لم يحقق منه النجاة، وكأن فائض هذا التقويل يشمل الحيوان والطير وقد يشمل في مرحلة ما حفيف الشجر.

* * * * * * * * * *
لا تقتصر هذه الفوبيا الرشدية على المثقف العربي، فما جرى لعالم الفيزياء لافوازيينه الذي قطع رأسه والقي في القمامة لم يتسرب من ذاكرة المثقف في اوروبا، وما حدث لشارلوت كورديه وجان دارك وسبينوزا وكل ضحايا التفتيش تحول ايضا الى فوبيا لكنها عولجت على نحو ما خصوصا بعد اعادة الاعتبار لضحايا التفتيش والظلاميّة، ولعل هذا هو الفرق بين فهمنا كعرب لحدود حرية التعبير وبين فهم الغربيين. وهناك ما يجب ملاحظته في الفارق بين مصائر ضحايا الجهل والتفتيش والظلامية في الغرب كوريث للاغريق وبيننا.

فسقراط قبل بالسم واوصى لحظة اعدامه بتسديد ثمن ديك كان قد اشتراه ولم يدفع ثمنه، وديوجين لم يكن ضحية خرساء، بل واجه الاسكندر في ذروة سطوته وطلب منه ان لا يحجب عنه الشمس، وسخر من امبراطورية شاسعة حين حمل شمعة وأخذ يفتش عن الحقيقة في عزّ الظهيرة الساطعة، لقد كان لمواجهة الكاتب اوالفيلسوف للسلطة سواء كانت ثيوقراطية او سياسية جذر في تاريخ اوروبا، اما هذا الجذر بالنسبة لذاكراتنا الثقافية فقد تعرض لقطيعة وتواطأت الثقافة الداجنة على طمسه وتغييبه بدءا من كتب التاريخ حتى مناهج التعليم الحديثة، هكذا اصبح المثقف الذي يشاهد التنكيل بزميله ملقحا ضد التورط بهذا المصير، وبدلا من مؤازرته، ينسحب وينكفىء داخل شرنقته مستمرئا النجاة رغم انها اسوأ من الهلاك .

* * * * * * * *
اهتدت السلطة في مجتمعات عربية تراوح بين الباترياركية والثيوقراطية والاوتوقراطية الى كيمياء خاصة بتصنيع مثقفين من البلاستيك والمطاط وهم جاهزون لأداء اي دور بدءا من تبرير القهر الذي يشمل زملاءهم وذويهم، وعناصر هذه الكيمياء غير العضوية هي ثلاثة، مستمدة من الثالوث الهندي التقليدي للقردة التي لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم وان كان هؤلاء قد اضافوا بعدا رابعا لهذا الثالوث هو انه عنّين يضع يديه هذه المرة بين ساقيه استكمالا لتكميم الفم والعينين والأذنين .
لكن هناك مقابل ضحايا الفوبيا الرشديّة من امتلكوا من فائض المناعة ما حصّنهم ضد التدجين والقطعنة، لكنهم نادرون وغالبا ما يتم اختطاف بسالتهم ومفارقتهم للسائد هربا من المقاربة بينهم وبين النعجة التي تكتب بأليتها، او الحرباء التي تكتب بجلدها! لم يتوقف حرق الكتب يوما، والرائحة التي انبعثت من رمادها قبل ألف عام هي ذاتها التي تزكم انوفنا اليوم، اما صلب الأجساد وحرقها او شنقها فقد تحول الى طور آخر، هو ما سماه هنري ميشو قطع اللسان والابقاء على الرأس وبقية الجسد. والمطلوب ممن يجازف بتخطي محيط الدائرة التي هي صفر بامتياز أن يتهيأ لتلقي العقاب، او التهديد به على الاقل، ولا اعرف كم هي مساحة الابداع العربي التي ضاعت بسبب هذه الفوبيا، لكنها بالتأكيد شاسعة، وللمثال فقط أذكر ما رواه سلامة موسى وهو من جيل التنويريين الرواد وربما كان من اكثرهم جرأة، فقد قال انه عندما ألف كتابه ‘هؤلاء علّموني’ حذف اسم كارل ماركس رغم انه معلمه الأول خشية من مطاردة الدولة واتهامه بالشيوعية. لقد بلغ التواطؤ ذروته بين ناشر مذعور يعتاش على دم الكتاب كالوطواط وبين رقيب يتقاضى اجره على قدر ما يذبح من النصوص وبين كاتب هو ضحية عدة فوبيات وليس فوبيا واحدة، انها على التوالي فوبيا الجوع وفوبيا النّبذ والاقصاء وفوبيا العزلة القسرية … وتبقى الفوبيا الرّشدية رغم كل افرازاتها هي الأجدر بالرصد والاستقصاء لأنها تخص مثقفا عضويا وغير مستولد بأي أنبوب سلطوي او ايديولوجي او حزبي!

ولا ندري الى متى سيظل قدرنا هو السّجال غير المتكافىء بين تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت ! لأننا كلما اوشكنا على اجتراح طريق امتلأ بقاطعي الطرق والعسس وصائدي الذباب !!!

( القدس العربي )

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *