صورة العربي في الفكاهة الفرنسية


بديعة الطاهري *

 تم تسريد الآخر في الثقافة الغربية منذ قرون عديدة . واعتبرت الرواية من أهم المجالات التعبيرية التي نقلت صورته وتمثلته سرديا .لكنه تمثيل لم يكن بريئا ومحايدا تستدعيه الكتابة باعتبارها فضاء للحوار بين الذات والآخر،أو ضرورة لإدراك الذات وفهمها ، وإنما كان محملا بإديولوجيا محايثة للمجتمع البورجوازي الذي جعل من الرواية أداته التعبيرية . تبعا لذلك ، صورت الرواية الأوروبية في مختلف مراحلها، وحتى القرن العشرين على أقل تقدير، الآخر صورة فيها الكثير من السخرية ،والاحتقار،والازدراء، والدونية التي تجعل منه معادلا للتوحش، والخمول، والتخاذل، والتخلف ،وغيرها من الصفات القدحية التي لا تمتلك قوتها الإقناعية إلا عبر تمثيل سردي مناقض ينتج ذاتا « نقية وحيوية وخيرة ومستقيمة وفاعلة «،1بل ومتحضرة تحمل رسالة إنسانية هدفها تخليص الآخر من وضعه المتدني .
يتبين لنا بناء على ذلك ، أن الكتابة عن الآخر لم تكن مجرد اختيار جمالي وإنما هي نوع من التواطؤ بين السياسي والثقافي ذلك أن « الرواية كانت أكثر الأشكال الأدبية الجمالية التي لم تعبر عن التوسعات الاستعمارية فحسب ، إنما ارتبطت بها»
لم تغادر صورة الآخر المتخيل الغربي والفرنسي بصفة خاصة، سواء كان هذا المتخيل شعبيا أو أدبيا ، بل يلاحظ على تمثل الآخر تعدد مجالاته التي ترتبط بما هو لفظي وغير لفظي من جهة ، ومقايضته بروح الفكاهة والضحك والهزل من جهة أخرى ، مما أكسب صورة الآخر أبعادا مختلفة، خاصة وأن تسريد ها لم يعد حكرا على أهل الدار ،بل صار صناعة هذا الآخر أيضا .
لكن الملاحظ هو أن دراسة الهزل ( الشفوي منه خاصة) نادرة في النقد العربي. فقلة هي الأبحاث التي اهتمت بدراسة أساليب الهزل، وتقنياته في النكتة الغربية . ومن هنا يكتسب كتاب حسن نرايس3 أهميته ، إذ يتيح التأمل في متن ساخر محاولا من خلاله إبراز صورة العربي في الفكاهة الفرنسية ..ولقد شكل بذلك إضافة في حقل الدراسات المهتمة بعلاقة الفرنسي بالعربي ، خاصة في مجال تقل فيه الدراسات هو الهزل، وفي متخيل يمكن أن يدرج في ما يسمى بالمتخيل الشعبي (مقارنة مع حقول أخرى فيها القصة والرواية والسينما )
فقليلة هي الدراسات التي اهتمت بصورة العربي في الفكاهة الفرنسية، وربما هذا راجع إلى أن ثقافتنا تميل إلى الجد أكثر من ميلها إلى الهزل ، أو إلى أن ما يثيره الموضوع من حساسيات يحول دون ذلك ، أو ربما أيضا لأن الدراسات النقدية الموجهة لمثل هذا المبحث – هي الأخرى- قليلة.
يستأثر الكاتب بفضل تأمل طريقة تمثل الفرنسي للعربي ، وبفضل جمع بعض المتن الذي يعد مرجعا مهما لكل من يهتم بهذا الموضوع،وبفضل إثارة السؤال حول دور الفكاهة الفرنسية التي اتخذت العربي موضوع تأمل ودراسة في حقل النقاش السياسي والاجتماعي الفرنسي الذي كثيرا ما كان العربي محوره.
يسعى الكاتب إلى تتبع صورة العربي في الفكاهة الفرنسية ، وبالتالي فإن المتن الذي يشتغل عليه يتوزع ما بين السكيتشات والنكت وبعض البرامج التلفزية الهزلية .
يستجيب الكاتب في جزء مهم من كتابه إلى الهاجس المنهجي الذي يفرضه عنوان الكتاب « صورة العربي «.فيدرس هذه الصورة وفق تيمات يتحدد العربي بناء عليها لصا ،وسارقا، وغشاشا ، مع العلم أن المتن يتيح تبين تيمات أخرى لا ينتبه إليها الكاتب مثل الحيلة والبلادة والسذاجة . لكن الكاتب في جزء آخر من الكتاب يخل بمنهجيته هذه ويتخلى عن معياره ذاك، ليقترح آخر ذا بعد تصنيفي أكثر منه تيماتيكي، وهو الشخصيات . فيحدثنا عن العربي الثري، وعن ابن العربي، وعن المرأة العربية كزوجة بصفة خاصة ،وربما ذلك راجع في نظرنا إلى أنه يحاول أن يتابع هذه الصورة عبر امتداداتها الممكنة التي تعمق البعد الساخر .لكنه سرعان ما يعود إلى توجهه الأول ، ليختم الكتاب بتيمة أخرى تحدد العلاقة بين الذات والآخر، فيركز على صورة العربي المنبوذ لتكون هذه الصورة بمثابة تتويج للصور السابقة ،ونافذة تمكن الكاتب من تقديم موقفه من هذه الفكاهة، وقراءة أطروحتها من وجهة نظره ، وتمرير موقفه إزاء ها .
لن نخوض في إشكالات الكتاب المنهجية، لكن لا بد وان نذكر بأن الكاتب يعترف بها ، لأنه صحافي وليس باحثا أكاديميا كما يقول هو ذاته ، وبالتالي فإن أقصى ما يصبو إليه هو محاولة جمع المتن الساخر ، والإنصات إليه لرصد صورة العربي في الفكاهة الفرنسية ، والتساؤل عن موقع هذا الأخير فيها. سؤال يجد له معناه في خاتمة الكتاب التي تشكك في الجانب الإيجابي للفكاهة .
إن أهم ما يعيق الكتاب هو عدم إدراج المتن باللغة الفرنسية ،فالترجمة – وكما يرى الكاتب أيضا -تحول دون نقل الأثر الساخر في كثير من الأحيان .لأن ما يهم بالفعل في الخطاب الهزلي هو طريقة بنائه وإنتاجه واستراتيجيته وآليته ،وليس جانبه التيماتيكي الذي يكون في أغلب الأحيان مباشرا وواضحا للعيان. وكان بإمكان الكاتب أن يفكر في ملحق خاص بالنصوص الأصلية التي تتيح الوقوف على بعض هذه التقنيات مثل الجناس والثورية والنبرة وغيرها .
فما هي الاستراتيجية الموجهة لهذا الكتاب ؟
يندرج الكتاب في محورين أساسيين :
– يهم الأول الغيرية .وهو ما نستشفه من الجزء الأول من عنوان الكتاب : الضحك و الآخر. فالكتاب بذلك يهيئ القارئ للتعامل مع كتابه باعتباره محاولة لتبيان تمثل الفرنسيين للعرب ، واستجلاء نظرتهم إليهم . ورغم أن الكاتب لا يركز على هذا الموضوع بشكل مباشر ، لأن ما يهم هو الصور الساخرة التي يرسمها الفرنسي للعربي ، فإننا نجد بعض التأملات التي تندرج في هدا الإطار. فنتبين أن تمثل الآخر و كما يرصده الكاتب ، لا يخرج عما تجسده العلاقة بين الأنا و الآخر في الفكر الأوروبي .وهي علاقة تعارض وتضاد4 .فإذا كانت الأنا مبدأ للسيطرة ، فالغيرية في الفكر الأوروبي ليست « مطلق الاختلاف ، كما هو الحال في الفكر العربي. بل الغيرية في الفكر الأوروبي مقولة تؤسسها فكرة «السلب «أو النفي LA NEGATION، فالأنا لا يفهم إلا بوصفه سلبا أو نفيا ل « الآخر»5. «الأنا « وعي فردي منشغل بمصالحه ومنحاز لذاته «6(والفكرة ذاتها نجدها عند الفيلسوف الفرنسي باسكال)وهو مركز كل شيء. وراغب في أن يسيطر على كل شيء ، وبناء على ذلك، يتحدد موقع الآخر باعتباره موضوعا للسيطرة .
إن هذا التصور للآخر هو ما يمكن مثلا أن نفسر به لا النظرة التحقيرية للعربي فحسب، وإنما أيضا ما يشير إليه الكاتب من غياب صورة العربي عن الفكاهة الفرنسية وتأخر ظهورها إلى حدود السبعينيات . صحيح انه غياب يرتبط بالتهميش الاجتماعي الذي يعانيه المهاجر، لكنه يعكس النظرة التفوقية للذات الفرنسية التي تواجه الآخر بالنفي وتستكثر على العربي روح الفكاهة والملحة ، لا باعتباره منتجا لها فحسب، بل متلقيا وموضوعا أيضا، وربما هذا راجع إلى طبيعة الملحة والفكاهة إذ لا تكونان في متناول الكل ،إنهما قدرة مميزة تحتفظ بنوع من الاستقلال بالنسبة لقدرات أخرى مثل الذكاء والتخييل والذاكرة …الخ7 كما تستدعيان مؤهلات وكفاءات لا يمتلكها الكل، فبالأحرى العربي الذي تملك عنه «الأنا» تصورا سلبيا ، وتبني معه علاقة قائمة على مبدأ السيطرة ، وتنظر إليه باعتباره مصدرا للسلوك ، وخالقا لوضعيات مصنوعة من التوترات والنزاعات.
يتبن لنا بناء على ما سبق أن منبع رؤية الكاتب للمتن الساخر ناتج عن إيمانه المسبق بموقع» الأنا» ونسقها الثقافي الذي يحدد الآخر، لذلك ينطلق من تيمات جاهزة ومن فكاهة لا يرى فيها سوى البعد القدحي .
– يرتبط المحور الثاني بالهزل، ذلك أن مجال تمثل الآخر لن يكون عاما ، وإنما محصورا بوجهة نظر ساخرة. وتحضر هنا السخرية بمفهومها الانتقاصي الذي يشير إلى عيوب الآخر .
وإذا كان مجال الخطاب الساخر، عادة، متعددا قد يشمل الصفات الخلقية أو الخلقية أو القيم ،فإن الفكاهة الفرنسية لا تركز على الجانب الفيزيولوجي، و ربما ذلك راجع لارتباط هذا الجانب بما هو عرضي من الصفات التي لن تخصص العربي. فالقصير،أو السمين ،أو الأحدب،وغيرها من الصفات الفيزيولوجية العرضية -التي يمكن أن تعتبر تجاوزا قدحية – لا تخلق اثر الواقع ،و لا الشحنة الساخرة الكفيلة بتشويه العربي، والهجوم على جسده ،وتحديده باعتباره آخر بالنسبة للأنا،وباعتباره ناقصا ومختلفا بالنسبة للكوكبة التي يمثلها الآخر الذي تتعايش معه الأنا . كما أن منظومة الغربي الأخلاقية لا تهتم بالصفات الخلقية كمعيار للحكم على الآخر بالسلب ، ومن ثمة يتم التركيز في السخرية على الجانب السلوكي والأخلاقي .وهما الجانبان اللذان ربما يبرران نفي الآخر ، والحكم عليه بالسلب ويجعلانه مصدرا للتوتر.
تمتح النكتة ،التي هي مكون للفكاهة الفرنسية في رأي الكاتب ، من القبح مما يجعل الضحك فيها يعتمد على أذى الآخر، ويؤكد الكاتب ذلك بناء على أمرين :
– أولهما أن النكتة لا تبعث على الضحك في بعض الأحيان مما يجعلها من باب الشتائم .
– ثانيهما هو أن العنصرية الفرنسية في رأي joseph rovan لها جانب أدبي أكثر مما هو علمي ، ينتج الشتائم أكثر مما ينتج النظريات 9.
يدافع الكاتب عن هذا البعد في الفكاهة ،لأنه يؤمن بأن الصورة الرائجة عن العربي في الواقع لا تخرج عن هاتين الاستراتيجيتين : القبح والعنصرية . هي صورة سلبية تجعل من العربي معادلا لكل الممارسات السيئة،ومن سلوكه مصدرا للتوتر مثل :السرقة والاغتصاب والأوساخ.إنه بذلك مصدر لكل الشرور. وهي صورة لا تبنى انطلاقا من المتخيل، وإنما بناء على ممارسات واقعية يلمسها الفرنسي ويعايشها ، كما أنها أحيانا ، تأتي من موقف مسبق وتمثل جاهز. فالعربي يكون دائما سارقا.ويسوق الكاتب حادثة كان شاهدا عليها ،إذ سرقت من فرنسية محفظتها، فبدأت تصرخ موجهة التهمة إلى مجموعة من الشباب فيهم أوروبيون ،وأفارقة ، وعربي واحد ، فإذا بالشرطي يتوجه إلى العربي ليفتش جيوبه رغم أن الجميع نفى التهمة عنه. ويضيف الكاتب أن مختلف الصور السلبية عن العربي لها أساس في الواقع : في الصحافة ،وفي الحياة اليومية،وعندما ترتبط بالمتخيل ، يكون هناك إصرار بين على احتقار العربي. ويستدل بمثل يتداوله الفرنسيون يبين عنف العربي ينسبونه إلى مدونة الأمثال العربية ،في حين أنه في الواقع من اختراعهم ،فيشتغل هذا المثل بذلك كمرحلة مصادقة- بالمفهوم السميائي على موقف الفرنسي من العربي10.
إن ما يبن الإحساس التفوقي الذي تصدر عنه الذات ،هو طريقة اشتغال بعض الصور .نسوق كمثال صورة العربي السارق. إذ تشتغل هذه الصورة وفق مستويين :
– مستوى ساخر يحين الموقف القدحي (لص)
– ومستوى إيديولوجي ، يحين البعد الانتقاصي ، إذ السرقة تبني صورة أخرى وهي كون العربي ساذجا، وأن السرقات التي يأتيها ترتبط بعمليات بسيطة ، أما عندما تربط بعمليات معقدة فإن أصابع الاتهام لا تطاله .
ومهما كان العربي ،فإن ملامح هذه الصورة السلبية وتضاريسها لا تغادره. فحتى العربي الثري مثلا هو موضوع استخفاف ،لأنه مستهتر.وحتى عندما يتعاطف الفرنسي مع العربي على مستوى الواقع ، يضع لذلك شروطا تتلخص في ضرورة مراعاة مقتضيات الحياة الفرنسية وتقاليدها، مما يعني أن كل مخالفة لهذه المواضعات تجعل الفرنسي لا يقبل العربي .وبذلك ينفي تعاطفه الاختلاف الكفيل بتحقيق الآخر كذات موجودة ، ويبين أن الذات هي مركز السطيرة والقوة، وأن الآخر يتحدد سلبا ،وهو ما يمكن أن نلمسه من خلال هذا المقطع الذي يسوقه الكاتب ، للطاهر بنجلون: « ممنوع الغناء ليلا خاصة بالعربية أو البربرية ،ممنوع ذبح الخرفان داخل البناية، ممنوع الاهتمام بالسياسة ، نسيان الذهاب إلى العمل التفكير في استحضار العائلة ، ممنوع إنجاب أطفال من مواطنات فرنسيات….».11وتطول لائحة الممنوعات و يصبح العالم بذلك هو ما تتمثله الأنا وليس هناك وجود آخر ، وهذا ما يفسر ما أشرنا إليه سابقا من أن الأنا وعي فردي بوصفه منشغلا بمصالحه ومنحازا لذاته .12 خصوصا إذا أدركنا أن علاقة التعاطف مع الآخر رهينة بالخدمات الاجتماعية التي يقدمها للأنا.
إن ما يهم في العربي ليس هويته وجغرافيته ،وإنما امتداداته الدلالية. فالآخر لا يهم أن يكون مغاربيا من الجزائر أم من تونس أم من المغرب أو عربيا من الأقطار الأخرى، إن ما يهم هو ما تتمثله الذات وما ترسمه من صور سلبية لها مغايرات متعددة، بحيث يكون العربي لصا، وغشاشا، وعاطلا (البطالة ترتبط بكينونة العربي لأنه متهاون مستهتر غشاش). والمهم هو أن هده الصورة في رأي الكاتب لها روافد على مستوى الواقع ، ولا تقف عند حدود المتخيل. إنها موقف الصحافة، والتلفزة،والشارع بمختلف تعبيرات هذا الشارع ( معجمه اللغوي وأغانيه).
نلاحظ إذن ترابط المحورين. فالانطلاق من القناعة المسبقة من أن» الأنا» مسيطر و قوي ومركز العالم ، جعل الكاتب لا يقف في هده الفكاهة المعتمدة سوى على جانبها السلبي وعلى بعدها العنصري.
خاتمة على شكل تعقيب
إن اهتمام الكاتب واعتماده على صور جاهزة اتخذها منطلقا ومدخلا لكتابه قبل أية دراسة نصية للمتن الفكاهي ،هو ما اثر عليه في بحثه، وجعله يبحث عن المتن الذي يجسد الموقف الذي انطلق منه ، وهو تبيان أن هذه الصور السلبية كلها تصدر من موقع تفوق الذات الغربية، واحتقارها للعربي بدليل تضاريس هذه الصورة السلبية وتنوع ملامحها .
لكن، وانطلاقا من الكتاب ذاته، لا يمكن أن نختزل أبعاد الفكاهة الفرنسية في هذا الجانب القدحي والسلبي والعنصري .لعدة أسباب :
فالكاتب يقول إنه يحب فرنسا ومتعلق بها وأنها قدمت له الكثير. وانطلاقا من ذالك نقول له لا تكن عاقا ،واعلم أن علاقة الحب التي تربطنا بالآخر تجعلنا نكف عن التقاط مواطن القبح والبشاعة فيه، لأننا بذلك نشوه مواطن الجمال فيه ونقتل الحب داخلنا .وبناء عليه لا يمكن أن نقف عند الجانب القدحي في الفكاهة ،لا بد وأن نعتبرها مرآة لقراءة الذات وتأملها ،وربما في ذلك فرصة من بين الفرص التي تجعلنا نلتفت إلى هفواتنا ،ونصحح ما بنا من اعوجاج .فلا معنى لوجودنا ما لم يكن هناك من يدركنا ومن بفضله ندرك ذواتنا .
– إن التيمات التي يعتمدها الكاتب تشكل مقولات عامة. وربما هذا ما يفسر تعدد المغايرات. فالنكتة الواحدة هي بنية بعناصر ثابتة وأخرى متحولة .فالثابت بلغة فلاديمير بروب هي الوظيفة ،والمتحول هو الشخصيات .فهجرتها- أي النكتة- وارتباطها بشخصيات مختلفة، ليس فيه إصرار على الاحتقار، بقدر ما فيه روح الفكاهة والملحة.
– فضلا عن ذلك، يشير بعض المهتمين بالنكتة عن العربي أنها جمعت من مصادر عربية ،ومن أفواه الجيل الثاني والثالث ،إذ أصبح العربي يروج النكتة عن ذاته ، وهو ما نلمسه أيضا في بعض النكت التي يعتمدها الكاتب .فإذا كان الفرنسي يشكل في بعض النكت مكونا من مكونات النكتة باعتباره ساردا و متكلما، فإنه في نكت أخرى يغيب ولا يبقى في عناصر التواصل الظاهرة سوى العربي ، سواء كان صديقين أو أبا وزوجته ، او أبا وابنه …الخ .و لا احد ينفي العنصرية عن أي بلد كيفما كان، ولكن يجب النظر إلى الظواهر والقضايا في عموميتها وليس في جزئياتها، وبناء على ذلك يجب النظر إلى الفكاهة من زاوية أخرى .
– نحن نعلم أن النكتة لا مالك لها. وندرك أيضا أنها مهاجرة كما أشرنا سابقا، وأنها تخضع لتأويلات وإضافات ،وهو ما نقف عليه في كتاب حسن نرايس ، إذ تبين لنا أن بعض النكت التي يعتمدها الكاتب قيلت في جنسيات أخرى .في الصيني مثلا.
– لا يمكن أن يكون البعد العنصري هو كل ما يتحكم في ا لفكاهة والنكتة.فالدولة،وكما يؤكد الكاتب، حريصة على إدانة كل سلوك عنصري، كما هناك سعي من الفكاهيين إلى تجنب تهمة العنصرية، بدليل أن هناك نكتا ترتبط في فضائها الدلالي بالعربي، لكن الإعلام التلفزي يتداولها باعتبارها قيلت في البلجيكيين .
– إن العربي المهاجر من الجيل الأول ليس هو المهاجر من الجيل الثاني والثالث.فقد أبان هذان الأخيران عن قدرتهما على الاندماج وإقناع الآخر بكفاءاتهما وقدراتهما. وهو ما أتاح لهما تقلد مناصب مهمة في الوزارات والبلديات وغيرها من المؤسسات والأجهزة .ونحن، وبناء أيضا على ما يؤكده الكاتب، لا نجد فكاهة في العربي قبل السبعينات بالرغم من أن وضعه الثقافي والاقتصادي كان كفيلا بجعله موضوعا للسخرية .
إن ظروف ظهور الفكاهة المرتبطة بالعربي تدعو إلى عدم الاكتفاء بالجانب القدحي والسلبي للفكاهة والاقتصار عليه ، والاهتمام بأبعاد ودلالات أخرى سنحاول أن نسوق بعضها . لقد ظهرت الفكاهة عن العربي في فترة استنفد فيها الحديث على المستوى السياسي والاجتماعي عن الإشكاليات التي تهم العربي كالهجرة والعنف والأمن والهوية والاندماج. وهي القضايا التي طرحها اللقاء غير المتكافئ بين الأوروبيين و العرب في إطار هجرة هؤلاء .إذ أصحبت هناك حاجة ملحة إلى إخراج مشاكل العرب من وضعها الجاد ، وإدخالها باب الهزل لتهوينها،ولتدبير التوتر والقلق ولا-توازن الذي يسم العلاقة بين الطرفين .وبهذا لم يعد الضحك وسيلة لإبراز التفوق، أو بث مشاعر العداوة ،وإنما وجهة نظر اختلافية تتيح تأمل الآخر بنوع من المسافة الموضوعية ، خاصة وان الهزلي كان مصدره فكاهيين لم تعرف عنهم العصبية . كما أغنى هدا الحقل مشاركة بعض الفكاهيين المغاربة الذين كان لاندماجهم الناجح في المجتمع الفرنسي، وإتقانهم للغتين ،واطلاعهم على الثقافتين ، دور كبير في تقريب هذا الأخر -أي العربي- بروح مرحة، وجعله موضوع اتصال مألوف يتيح التفاعل بين « الهم « و»النحن»،لأن الضحك يصير البعيد قريبا والغريب حميميا13 .إنه فضاء للاسترخاء والتخفف من التوتر الذي تخلقه العلاقة مع الآخر .
إن الضحك نوع من التطهير. كما انه قادر على خلق نوع من التآلف والاتصال الموسومين بالاطمئنان بالنسبة للقطبين. فالضحك وحده قادر على خلق فضاء للتحرر من الأحكام المسبقة عن الآخر، ومن كل المواضعات ، والإكراهات التي تفرضها التراتبية داخل الحياة العادية.
فلو انطلق الكتاب من هذه الاستراتيجية ،لاتخذ بحثه توجها آخر ولتخلص من الدراسة الإديولوجية التي تغفل في دراسة الفكاهة جانبها الفني والجمالي الذي وحده يكون قادرا على الوقوف وبنوع من الموضوعية على الأبعاد الدلالية.


 


 



* كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء



هوامش:
1 عبد الله إبراهيم : السردية العربية الحديثة .تفكيك الخطاب الاستعماري وإعادة تفسير النشأة، الدار البيضاء المغرب ، المركز الثقافي العربي.ط الأولى 2003 ، ص. 70
2 المرجع نفسه ، . 68
3 حسن نرايس : الضحك والآخر، صورة العربي في الفكاهة الفرنسية . الدار البيضاء ،أفريقيا الشرق، ، ط2. 2002
4 محمد عابد الجابري . الأنا مبدأ للسيطرة… والآخر مقال على صفحات الأنترنيت
5 نفسه
6 نفسه
7[Freud : Le mot d?esprit et ses rapports avec l?inconscient. Editions Gallimard, 1930 .p 37
8 محمد عابد الجابري : مرجع سبق ذكره
9 Joseph Rovan : Des français contre les immigrés
انظر : الضحك والآخر صورة العربي في الفكاهة الفرنسية ص .47
10 حسن نرايس : المرجع نفسه .ص85
11 Tahar B.Gelloun , la réclusion solitaire
انظر حسن نرايس ، مرجع سبق ذكره ،ص : 27-28
12 معجم لالاند انظر محمد عابد الجابري . مرجع سبق ذكره
13 Azouz Begag : L? humour comme distance dans l?espace interculturelin Ecart d?idenditéN 97.autoomne2001 .P4



(جريدة الاتحاد الاشتراكي المغرب )

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *